لكبيرة التونسي (أبوظبي)
يتيح «بيت الحرفيين» في قلب العاصمة أبوظبي مقاربة مبتكرة تعيد اكتشاف المفردات التراثية بطريقة مختلفة، ضمن المنطقة الثقافية في قصر الحصن. ويحتضن أعمالاً تعكس تنوّع البيئات الإماراتية وغناها، ويظهر أدوات تراثية رافقت السكان طوال حياتهم، ويضم معارض لمبدعين شباب تدلّ على التكامل بين الماضي والحاضر، ومكوّنات ساهمت في إثراء فضاء متنوّع يشكّل جذباً ثقافياً وسياحياً.
وتحت عنوان «التقاليد عبر الأجيال»، وضمن المعرض الدائم لـ «بيت الحرفيين» الذي يُعد جزءاً من الخطة الاستراتيجية لدائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي، التي تعمل على توثيق تاريخ الإمارة وثقافتها بطرق جديدة ومشوّقة وجذابة، يوفّر المعرض الاطلاع على المنتجات التقليدية، والتعرف إلى الفن المعاصر لفنانين إماراتيين ناشئين يقدمون أعمالاً حديثة مستوحاة من الحرف التقليدية.
يأخذ «بيت الحرفيين» بهندسته المعمارية وديكوراته الفريدة التي تتماهى مع محيطه التاريخي في العاصمة، الزوار في رحلة عبر عروض حيّة تجسّد العلاقة المتداخلة بين الأمس واليوم. وتعكس الجزء الأصيل الذي ظلّ يشكل تمازجاً وجدانياً بين الإماراتيين بمختلف مكوّناتهم، وفي حفاظهم على الموروث كفن عيش ينبثق من طبيعة حياتهم الاجتماعية، ويشكّل نافذة على إبداعات الأولّين الذين طوّعوا الطبيعة وجعلوها في خدمتهم. ومع تطوّر المدن، ظلّت هذه الحرف مستمرّة من الأجداد إلى الآباء والأبناء.
تطويع الطبيعة
وأوردت نوال الشحي مرشد ثقافي في دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي أن الإماراتيين استفادوا من الموارد الطبيعية المتوفّرة في البيئة المحيطة بهم لصنع منتجات يدويّة ظهرت لتلبية احتياجاتهم، موضحة أن إنتاج مثل هذه الحرف يعتبر من الدعامات الأساسية للاقتصاد، من خلال الاستخدام الإبداعي للوسائل المتاحة، والذي يكتمل مع الفهم العميق للروح الجماعية. وذكرت الشحي أن المعرض يشكّل فرصة للاحتفاء ببراعة رجال ونساء الإمارات وبحكمتهم وخبراتهم التي ساهمت في إبداع مجموعة حرف استُخدم في صنعها الكثير من المواد الموجودة في شجرة النخيل وفي البيئة الطبيعية، بواسطة تقنيات أثرت التراث الثقافي المستمر حتى اليوم.
وأضافت أن المعرض يتيح الفرصة لمقابلة الحرفيين ومشاهدتهم وهم يقومون بصنع الحرف اليدويّة، وتعلّم تقنياتها مباشرة منهم، مع الاطلاع على تجارب شباب جذبهم التراث فأضافوا لمساتهم العصرية من دون أن يفرّغوه من روحه، لافتة إلى المساحات الواسعة المخصصة للتعلّم ضمن ورش تفتح أبوابها يومياً أمام الزوار لتمكينهم من استكشاف تراث الأجداد.
4 منصات
وأشارت الشحي إلى أن المعرض الدائم يضمّ 4 منصات رئيسة هي: بيت القهوة، الخوص، التلّي والسدو، إلى جانب زوايا متخصصة لورش العمل وركن الهدايا. وأوضحت أن بيت القهوة تجربة ثقافية تحاكي طقوس تحضير القهوة العربية وتقديمها للضيوف، حيث تُعد القهوة جزءاً من التقاليد وتعبيراً عن كرم الضيافة الذي توارثته الأجيال على مدى قرون طويلة، وترمز إلى قوة الروابط الاجتماعية والثقافية في المجتمع.
وعن منصة الخوص شرحت أن النخلة تعدّ الركيزة الأساسية لهذه الحرفة التي يمارسها الرجال والنساء، في حين تتميّز صناعة التُلّي بقيام الحرفيات بأعمال التطريز على آلات تقليدية مثل «الكاجوجة». وتضيء منصة السدو على المهارات التراثية في مجال النسيج التقليدي، وغالباً ما تُقدّم نماذج فنية تمثّل أنواعاً من النباتات والحيوانات ورسومات من البيئة المحليّة.
تصاميم
وتحدثت عائشة حسن خانصاحب باحث في دائرة الثقافة والسياحة ومقيِّمة في معرض «بيت الحرفيين»، عن تصميمه المتفرّد المستوحى من الطبيعة في الإمارات. وشرحت أن المنصات مشكّلة من جذع النخيل ومستوحاة من العريش، وقد جاءت على شكل «القرقور» وتتدلّى من أسقفها ثريات من وحي الصناعة نفسها، مزيّنة بالصوف ومن بكرات خيوط فضية من سعف النخيل تُستعمل في صناعة التُلّي.
وذكرت خانصاحب أن بيت القهوة يأتي على شكل خيمة، وقد استوحي من الطبيعة الإماراتية الأصيلة، لافتة إلى أن كل جناح يعرض أدوات الحرف وأساليب النسيج، مثل التلّي المُستخدم في الكندورة والثوب، بحيث يعيش الزائر قصة متكاملة من المادة الخام إلى تلوينها وتصنيعها.
وأضافت: عملنا على جمع قصص من الحرفيين، واعتمدنا على معلومات متواجدة في قصر الحصن، وعليه تم تقييم المعروض، كما أن القطع الموجودة في المعرض، معظمها من الحرفيين، إذ يُعد المعرض نتيجة جهد وعمل جماعي.
«أبوظبي كرافت»
عن خطة رفع المعروضات إلى العالمية، أكّدت خانصاحب أنه يتم التعامل مع منصات جديدة، منها «أبوظبي كرافت» التي تعرض أعمال الحرفيين، وبينها قطع للبيع سواء تلك التي عمل عليها حرفيون أو فنانون إماراتيون أو شركات كبيرة.
وقالت: نعمل على إعادة تقليد بعض الحرف إلى ما كانت عليه من حيث ممارستها، مثل حرفة السدو التي كانت النساء يعملن عليها بشكل جماعي، موضحة أن المكان مصمّم لاحتواء من 7 إلى 8 حرفيات في الوقت نفسه. الأمر الذي يعكس أمام الزوار الطابع الاجتماعي للحرف في السابق، وكيف كانت الحرف تُصنع في المجالس والليوان والبيوت الشعبية، حيث تنسج الحكايات ويُتداول الشِعر.
استقطاب الطلبة
وبالحديث عن دور «بيت الحرفيين» في تأصيل هذه الحرف ونشرها في نفوس الشباب وتمكينهم منها، قالت خانصاحب: قمنا السنة الماضية بالتنسيق مع جامعة زايد، بتدريب مجموعة من الطلبة على السدو، وأرسلنا لهم الأدوات اللازمة إلى البيوت. كما سنعمل على استقطاب المدارس لنقل هذا الإرث إلى الجيل الجديد، والفئة العمرية من 8 - 12 سنة، والورش مفتوحة في أمام مختلف الأعمار. وضمن الخطط المستقبلية، سوف ندرّب الراغبين من الحرفيين الإماراتيين لنقل هذه الحرف إلى الأجيال المقبلة لضمان استمرارية الإرث غير المادي، الذي لا يقتصر على المهارات العملية، بل يساهم أيضاً في تعزيز القيم الاجتماعية المرتبطة بالهوية الوطنية.
«عالم الحرف»
يشتمل ركن «عالم الحرف» حيث تُعرض أكثر من 60 قطعة، على الحرف التقليدية التي مارسها الإماراتيون قديماً وتوارثتها الأجيال. ويستعرض الحرف البحرية التي مكّنت الأوّلين من إيجاد طرق مبتكرة لاستكشاف البحر والاستفادة من ثرواته، بحيث ساعدت صناعة القوارب على تطوير العلاقات التجارية عبر الخليج العربي والمحيط الهندي، وساهم صيد اللؤلؤ والأسماك في ازدهار المجتمعات الساحلية والاقتصاد المحلي بشكل كبير. وقد استُخدمت مواد محلية في تصاميم شباك الصيد، مما ساهم في تحسين طرق صيد أنواع الأسماك المختلفة الموجودة في مياه الخليج العربي.
أعمال عصرية
يضم المعرض تصاميم تعود إلى فنانين معاصرين، ويقدّم أكثر من 16 فناناً، مجموعة أعمال تربط التراث بالحداثة، مستخدمين مواد من بيئة الإمارات، ومنها:
ـ «مقعد يريدة» للفنانة عزة القبيسي، تحاكي فيه مواد مستدامة استخدمها الحرفيون قديماً، واستعانت بـ «الكراب»، أي أشجار النخيل العريضة.
ـ «رحى طاولة القهوة» للفنان محمد السويدي، استوحى عمله من الرحى التي كانت تُستخدم لطحن الحبوب، واستعان بخشب شجرة الغاف وصدف اللؤلؤ المحلي.
ـ «حوار مع الطبيعة» لحصة العجماني، دمجت فيه بين الفخار والنباتات المحليّة. وعملها نتيجة لتجارب متراكمة مع مواد تمنحها الأرض، وهي عملية تستند إلى التجربة والخطأ.
ـ «حذاء رياضي من السدو»، قام «بيت الحرفيين» بتصميمه، وصنعته حرفيات إماراتيات. يجمع بين جلد الجمل مع قطع منسوجة من السدو، ويظهر تطوّر الحرفة التقليدية التي تُدمَج اليوم مع المواد العصرية.
تراث معنوي
حرصت دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي على تخصيص معرض «بيت الحرفيين» للحفاظ على التراث المعنوي، تأكيداً على أهمية الارتباط الثقافي والنفسي بالماضي في جمالياته وحميميته، وفي مكوّنات الدولة وتنوّعها الجغرافي والاجتماعي، مما يضع الزوار أمام متحف من التقاليد والعادات. ويكشف المعرض الدائم خزاناً من أنماط العيش التي لم تغيّرها السنوات ولم يتخلَّ عنها الشباب، في خطوة لإطلاع الجمهور على تاريخ الإمارات وتراثها الغني.
قصص الأجداد
يسرد «بيت الحرفيين» قصص الأجداد في أجواء متفرّدة، تضع الحدث في قالب إبداعي، إلى جانب عروض فنانين معاصرين، ومجموعة من الأدوات التي استُخدمت قديماً في صناعة الحرف التقليدية والمواد الطبيعية المستعملة في صبغها.
لوحات تعريفيّة
يتضمّن الموقع لوحات تعريفية بكل منتج وحرفة، ويخصّص هذه المساحة احتفاءً بالتراث الثقافي للدولة. ويعمل كدافع للتوعية بأهمية صون التراث المحفوظ في البيوت، مثل الموروثات العائلية العزيزة والمقتنيات التي تروي ملامح من التاريخ وقصصاً يكتنزها، للإضاءة من جديد على الذاكرة الجماعية والماضي المشترك.