كل من يعمل في مجال يعتمد على الإنتاج الفكري، كالمؤلف والرسام والملحن، يعرف جيداً ما يعرف بالسدة الإبداعية.. تلك اللحظات الرهيبة التي يحملق فيها الكاتب في ورقته البيضاء: كيف يبدأ وماذا يكتب؟ إنه كابوس يطارد المبدعين أينما كانوا.. ذلك الخوف من أن تنضب قريحتك وينتهي معينك فتفقد الإبداع الذي يميزك عن الآخرين.. وما يزيد هذا الخوف عمقاً هو عجزنا عن اقتناص المصدر الحقيقي للإبداع في داخلنا.. لا يوجد زر نضغط عليه فينطلق الابتكار.. لو وُجد لانتهى عذاب المبدعين واضطرابهم وغرابة أطوارهم.. فالإبداع أساس تفردهم، ورغم ذلك هو ظاهرة غريبة عنهم، لا يعرفون بالتحديد متى تتوقف.
لا توجد وصفة واحدة للإبداع.. أحياناً تأتي الفكرة الجيدة دون مجهود يذكر، وأنت شارد تقود سيارتك أو تستحم أو تحاول النوم.. وأحياناً يأتي بشق الأنفس بعد تفكير وتركيز ومطالعة عشرات المراجع.. وقد يأتي فجأة من مصدر خارجي لا يد للإنسان فيه.. لدرجة أن القدماء اعتبروا بلاغة الشعراء مجرد وحي وإلهام من عفاريت وادي عبقر، الذي اشتقت منه كلمة عبقري كما تعلم..
إذا كنا لا نسيطر على منبع الإبداع، فكيف نتخلص من كابوس توقفه؟
من الطرق الفعالة للقضاء على السدة الإبداعية هي العمل على إزالة الحواجز الذهنية بانتظام.. ففي داخل كل منا شلال إبداعي هادر لا يتوقف.. لكننا نقمعه ونقيم عليه السدود والحواجز ونكبته ونجففه..
دعني أضرب لك مثلاً.. الكاتب الذي يشكو من سدة إبداعية، لو ترك مكتبه الآن وجلس على أريكة معالج نفسي، أو جلس مع أصدقائه على المقهى، أو اختلى بحبيبته، لراح يثرثر دون انقطاع.. من أين جاءت السدة الإبداعية إذن؟ جاءت من كون إبداعه لا يعبر عنه حقاً، بل هو مجرد وظيفة.. إنتاج معلب.. يريد الشخص أن ينتج فكرة بمقاس ومواصفات ومحاذير محددة، لدرجة أنها قيدت خياله ذاته.. تم تقييد نهر أفكاره الطبيعية فحدثت السدة الإبداعية.
هناك حواجز كثيرة أخرى.. مثل السعي للكمال، والخوف من الفشل.. وعلاج كل هذا أن تطلق العنان للتدفق الإبداعي وتكسر ما يقيد خيالك.. أن تكتب ما تحب وما يعبر عنك أنت، لا ما يطلبه المتلقي.. على الأقل مؤقتاً.. لا تفكر في تشذيب الحديقة، بل فكر في تخصيب تربتها أولاً كي تنبت لك الأدغال والغابات كي تقوم بتشذيبها والانتقاء منها لاحقاً..
يرى إدوارد ديبونو، وهو أحد خبراء التفكير الإبداعي، أن من تقنيات الإبداع ما سمّاه «التفكير الجانبي».. أي أن تفكر عكس الاتجاه المطلوب.. في كل هو عبثي ومستحيل ولا يحل المشكلة بل يزيدها تعقيداً.. اكتب المقال الذي لن تستطيع نشره وارسم اللوحة التي لن يحبها الناس.. (مات جرونينج) صانع المسلسل الأشهر «عائلة سيمسونز» يردد دائماً أنه يكتب ما يجده ظريفاً وما يعجبه شخصياً، بغض النظر عما يراه الناس.. بهذه الطريقة استمر المسلسل لأكثر من عقدين، بعد أن أسقط حاجزاً تتحطم عليه رؤوس كثير من المبدعين.. أبدع ما يعبر عنك وما يعجبك وما يكسر حواجزك النفسية… كي تتصل مباشرة بشغفه وتدفقك الإبداعي.
باختصار، الإبداع يكمن في إطلاق العنان لا تقييده.. وهذا يتطلب السماح لنفسك بالفشل.. بالعبث.. باللعب.. بالتفكير أبعد من المسار التقليدي الذي تحكمه أي ضوابط.. وهو ما قد يؤدي لإنتاج أفكار كثيرة تتفاوت في سوئها وجودتها، لكنها ستكون مادة دسمة يمكنك تنقيحها واستلهام أفكار جيدة منها..
أرِحْ ذهنك.. وأزِلْ الحواجز..
وستجد أن هذه السدة قد تم تسليكها بنجاح!