شاكر نوري (دبي)
غامر الرحّالة والمستشرق الأميركي جيمس ريتشاردسون (1809 - 1851)، من أجل أن يكتشف عالم الصحراء الكبرى بشغف وحماس، لهذا هيّأ نفسه لهذه الأسفار بدراسة اللغة العربية وآدابها، وتعرّف من قرب إلى مجاهل الصحراء وجغرافيتها دون بوصلة.
كانت أولى محطّاته غدامس الليبية وسط الصحراء في 1845 منطلقاً من تونس وطرابلس. تمخّضت هذه الرحلات عن ولادة كتابه «رحلات في الصحراء الكبرى»، بعد مرور أربعة أعوام من رحلته. بعد ذلك نُشرت مذكّراته في مجلّدين كبيرين «عن وسط أفريقيا» 1853 و«رحلات في المغرب» 1859. بذلك أُنجزت سلسلة رحلاته في هذه المنطقة.
استمرّت رحلته نحو تسعة أشهر، سجّل فيها تفاصيل حياة الطوارق وعاداتهم، وطبيعة الصحراء الليبية، وصعوبة الحياة فيها، وأظهر إعجابه وانبهاره الشديدين بقدرة المسلمين على حرمان أنفسهم من الطعام والشراب في أثناء صيام شهر رمضان من الفجر إلى المغرب، كما سرد ذلك في مدوّناته ومذكّراته وكتبه.
لم يكتفِ الرحّالة بذلك، بل رسم عدداً من اللوحات عن الحياة اليوميّة في مدينة غدامس، وتطرّق إلى مجالات الحياة، ومنها: تقنية رفع ونقل المياه من الآبار في المدينة التاريخية، ولوحة للرحّالة وهو يرتدي الزيّ الغدامسي.
انصبّت مهمّة الرحّالة أساساً على إنجاز الكشوفات الجغرافية التي تحتاج إليها الولايات المتحدة آنذاك لتوطيد تجارتها مع أفريقيا، لهذا الغرض سافر ريتشاردسون إلى السودان لمحاربة تجارة الرقيق، لكنّه توقـّـف في غدامس الليبية لخطورة الطريق.
مصدر علمي
تُعدّ كتاباته من أهمّ ما نُشر عن ليبيا في القرن التاسع عشر، ومصدراً علميّاً من خلال حضوره مجالس رمضان وتوثيقها، ولقاءاته بالمسؤولين كالقاضي الشرعي الذي يحدّد بدء شهر رمضان حسب رؤية الهلال، وما يحيط بذلك من مهمّات فقهيّة ودينيّة.
كتب الكثير عن أهالي غدامس التي أثارت مخيّلته، ببنائها الطيني وآثارها التاريخية، وأدهشته بشوارعها الخالية من المارّة نهاراً لالتزامهم بالصيام. لاحظ أنّ أهالي غدامس يحتفلون بهذا الشهر بروحانيّة عالية ترتسم على وجوههم. ارتبط الصائمون كما يرى ريتشاردسون بروح الطبيعة، حيث يؤقّت الناس فترة الفطور والإمساك بطلوع الفجر وغياب الشمس، ويخرجون لرؤية الأفق وهم يفطرون على حبّات التمر بعد يوم كامل من الصيام عند سماع أذان المغرب.
الإعجاب
امتلأ ريتشاردسون بالدهشة والإعجاب لأهالي غدامس وقدرتهم على الصيام، وتجلّي الصبر في مظاهر حياتهم المتقشّفة إلى أقصى الحدود، و للإيمان الراسخ في قلوبهم ممّا جعله يُدخل كلمة رمضان ككلمة مقدّسة عند المسلمين، ورمضان في نظره هو الصوم والإيمان والصبر والقوة.
عندما قام هذا الرحّالة والمستشرق بتسجيل مذكّراته وانطباعاته، أسهم في تعزيز المفاهيم الصحيحة عند الغربيين، لأنّ غالبيتهم كان يستقي أفكارهم عن تلك الرحلات والمذكّرات، وخاصّة في القرن التاسع عشر الذي كان يفتقر للوسائل الأخرى، فالمدوّنة أي ما يدونّه الرحّالة والمستشرقون على الورق يعدّ وثيقة تاريخيّة عن تلك الفترة، لذا فهو كان من أوائل المكتشفين للصحراء الكبرى، وكتب عنها وعن سكانها بأمانة وموضوعيّة مقارنة بما كتبه الرحّالة الآخرون.
إنّ الفترة التي أمضاها في تلك المدينة أرّخت لرؤيته عن حياة المدينة بمجملها. لو أراد القارئ أن يعرف ماذا كانت عليه حياة المدينة لعاد إلى قراءة هذه المذكّرات التي تكشف عن أبعاد الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية آنذاك، وخاصّة في نقل الشعائر الدينيّة التي كان أهالي تلك المدينة يمارسونها بأمانة وصدق، على الرغم من أنّه كان في بادئ الأمر وأوائل رحلته ومغامرته في الصحراء يريد أن ينشر المسيحيّة بين أوساط الطوارق وأهل الصحراء من خلال الإنجيل المترجم إلى اللغة العربية، لكنّه سرعان ما تراجع عن ذلك عندما لمس قوة الإيمان عند أهل المدينة والطوارق. كتب عن الإسلام كتابة منصفة، وعبّر عن إعجابه وانبهاره بالدين الحنيف. لعلّ تردّده على المجالس الرمضانية دفعه إلى اكتشاف الإسلام على حقيقته، مسجّلاً تفاصيل ما كان يدور في صدور المسلمين من إيمان.
فوائد الصيام الصحّية
كتب عن أهمّية الصوم للمسلمين وفوائده الصحّية الكثيرة للجسد، إذ كانت فكرته على عكس ذلك، لكنّه اكتشف حقيقة الصوم من خلال العبارة التي كان الأهالي يكرّرونها «صوموا تصحّوا»، وتوصّل إلى قناعة مفادها أنّ الصيام ينظّف جسد الصائم من سموم الطعام في الشهر الفضيل.
كان أهالي غدامس يقدّمون له أطباق الطعام بعد الفطور، وكان فرحاً بذلك، وخاصة وجبات حساء الشوربة، حيث أشاد بكرم الإسلام وفضائله.
أهمّ من كلّ ذلك اكتشف ريتشاردسون أنّ شهر رمضان يُعدّ الاحتفال الديني المهمّ في حياة الأهالي، حيث تتمّ فيه قراءة القرآن ومناقشة الأحاديث وحلقات الذكر واللقاء بالفقهاء، وتعلّم أصول اللغة العربية، كما لاحظ أنّ الناس يتشاركون الطعام في رمضان، فتشيع الألفة والتضامن في نفوس الأهالي دون أن يرى أيّ جائع في المدينة، رغم الظروف القاسية التي كان يعانيها من الحكّام الأتراك.
في كتابه يسرد أنّ أهالي غدامس واجهوا صعوبات كثيرة عندما فرض عليهم والي طرابلس محمد أمين الضرائب، إلّا أنّ ذلك لم يؤثّر على قوة إيمانهم وصبرهم في شهر رمضان رغم معاناتهم. هذا ما زاد من إعجابه وانبهاره بالإسلام، وسجّل ملاحظاته عن احتفال المدينة بيوم العيد بعد انتهاء شهر رمضان، بأزيائهم الزاهية والجديدة، مبتهجين في المساجد المزيّنة بالأعلام الملونة في منظر ساحر يتميز بروح الاحتفال يراه لأول مرة في حياته منبهراً بهذه المشاهد، إذ يتجمّع فيه الناس بصورة عفويّة تعبّر عن روح الأخوة والسلام والمحبة في الشهر الفضيل.
مراجع:
1 - Travels into the great desert of Sahara (2 Books. London 1849),
2 - Dictionary of National Biography, 1885-1900/Richardson, James
3 - http://www.biographi.ca/en/bio/richardson_james_1810_83_11E.html
4 - articles about James Richardson (explorer)