إعداد: د. شريف عرفة
كثيراً ما يدور هذا الجدل: هل من المفترض أن نغدق على أبنائنا بالعاطفة ومشاعر الحب، أم يجب فقط تقديم الدعم العملي لهم مع تقليل العاطفة كي لا يصبحوا مدللين أكثر من اللازم؟
حسب نظرية التعلق «أتاتشمنت ثيوري»، فإن الطفل يحتاج لقاعدة آمنة، ينطلق منها لاكتشاف العالم ليعود إليها مجدداً.. هذه القاعدة هي العلاقة مع الأبوين.. يجب أن يسودها الاطمئنان والدفء، وإلا اختلت عملية النضج النفسي، ويصبح الشخص عاجزاً عن الدخول في علاقة آمنة طويلة الأمد، لأنه - هو نفسه - لم يحظ بهذه العلاقة.
ظهرت هذه النظرية في منتصف القرن الماضي على يد العالم البريطاني جون بولبي.. ومن المدهش أن الإثباتات العلمية لها ما زالت تتوالى حتى يومنا هذا.
أجرت الباحثة هايدي باكمان من جامعة هلسنكي دراسة استمرت لأكثر من أربع سنوات، قامت فيها بتحليل بيانات 1354 شاباً اتهموا بارتكاب جرائم خطيرة في مقاطعة ماريكوبا وأريزونا وفيلادلفيا كاونتي بولاية بنسلفانيا، ونشرت نتائجها في جورنال أوف تشايلد آند فاميلي ستاديز - حيث وجدت علاقة واضحة بين تلقيهم مشاعر الحب من والديهم، وسلوكهم الإجرامي!
يقلل السلوك الإجرامي
السايكوباتية تعني معاداة المجتمع وعدم الشعور بالتعاطف تجاه الآخرين، وهي من السمات النفسية التي تميز كثيراً من المجرمين، لأنها تؤدي لغياب التعاطف مع الغير أو التضحية أو الإيثار من أجلهم، و هو ماقد يؤدي لسلوكيات مؤذية أو لا تراعي الآخرين.
وقد كشفت هذه الدراسة أن غياب الدفء الأبوي، صاحبته تغيرات نفسية لدى الابن تتمثل في زيادة السمات السايكوباتية والسلوكيات المعادية للمجتمع .. حيث إن سلوكيات الوالدين مهمة ليس فقط في مرحلة الطفولة، ولكن أيضاً في مرحلة المراهقة، حسب تصريح الباحثة لموقع ساي بوست، لأن هذا يعتبر عامل حماية، يقيهم من الانحراف النفسي.
وجدير بالذكر، أن دراسة أخرى - للباحثة مادلين بيلبي وزملائها ونشرت في نفس الدورية العلمية- وجدت أن غياب حنان الأم - تحديداً - صاحبه زيادة في مشاعر القسوة لدى الأبناء.
سلوكيات دفء المشاعر
أي شعور الشخص بأنه يتلقى الدعم العاطفي المطلوب من والديه.. بأنهما بجواره حين يحتاجهما.. بأن وجوده معهما تصاحبه مشاعر إيجابية، تزيد عن المشاعر السلبية.. عن طريق تعبيرهما بشكل لفظي واضح أنهما يهتمان بشأن الطفل أو المراهق، ويحبانه.. وأن يوفرا له التلامس الجسدي المعبر عن العاطفة مثل التربيت والاحتضان.. وألا يسود تواصلهما اللفظي معه الانتقاد والتقليل من شأنه أو الغضب منه ورفضه والرغبة في تعديل سلوكه طوال الوقت.. بل التركيز في مميزاته والثناء على سلوكياته الحسنة والأشياء الجيدة التي يقوم بها.. كل هذا يؤسس القاعدة الآمنة، التي ستشكل علاقته بوالديه وأساس بنيانه النفسي فيما بعد.
ليس العامل الوحيد
تقول باكمان في هذه الدراسة: إن هناك العديد من الأسباب والعوامل المساهمة في معاداة المجتمع والاعتلال النفسي.. مثل الدور الذي قد تلعبه الجينات الوراثية أو المسارات العصبية وكيمياء المخ، بالإضافة للعوامل الاجتماعية والبيئية والثقافية المختلفة، كلها عوامل وسياقات قد تسهم في تشكيل السلوك الإجرامي ومشاعر العداء تجاه مجتمع ما، وغياب السلوك الإجرامي.
فمثلاً، قد يشعر الإنسان بالدفء من والديه، لكنهما يربيانه على التطرف والتشدد وكراهية الأخ، وهو ما يجعل معاداة المجتمع في تصوره سلوكاً قويماً تلقاه من مثله الأعلى!
دفء المشاعر الوالدية ليس كل شيء، لكنه أمر ضروري للصحة النفسية. بالإضافة لعوامل أخرى ينبغي وضعها في الاعتبار لضمان سلامة المجتمع ككل.