شعبان بلال (القاهرة)
ثماني عشرة بوابة مختلفة، لكل منها حكاية وتاريخ طويل، الأبواب الخشبية وطلاؤها البرونزي يتشابهان حيناً ويختلفان في مواقع أخرى، من هنا مر الطلاب القادمون من كل مكان في العالم الإسلامي، فدخلوا أناساً عاديين، وغادروا نفس الأبواب وهم علماء عادوا لبلادهم فملأوا الدنيا علماً ونوراً، وكتب على شهاداتهم: تخرجوا في جامعة القرويين في مدينة فاس المغربية.
صنفتها اليونسكو كأقدم مؤسسة تعليم جامعي في التاريخ، وخصصت موسوعة غينيس للأرقام القياسية فصلاً خاصاً لها، ولن ينافسها فيه أحد أو يهدد عرشها، فجامع القرويين الذي تحول إلى جامعة فيما بعد هو من عرّف العالم كيف تكون الجامعة، وكيف تمنح الإجازات للأساتذة.
عمل الخير
يقول شريف هاشم الباحث في الآثار الإسلامية، إن تأسيس الجامعة يعود الفضل فيه إلى فاطمة الفهرية، السيدة القادمة إلى مدينة فاس المغربية، وأرادت تخصيص جزء من ثروتها لبناء مسجد.
فاطمة الفهرية، أو أم البنين، هاجرت مع والدها الفقيه محمد بن عبدالله الفهري من مدينة القيروان إلى مدينة فاس المغربية، وكان ذلك في عام 826 ميلادية، وحينها قررت إنفاق ثروة والدها في عمل الخير فأسست مسجد القرويين، وأوقفت ثروتها عليه حتى تضمن استمرار عمله بعد رحيلها.
وحتى يكون عمل الخير متقناً إلى أقصى حد، رفضت الفهرية أن تأتي بالتراب ومواد البناء اللازمة للمسجد من مكان آخر، وإنما من أرضها حفرت الكهوف، واستخرجت الحجارة اللازمة للبناء، وإمعاناً في الطهارة والنقاء، أشرفت على بناء المسجد وهي صائمة، حتى منّ الله عليها وانتهى جامع القرويين، وأقيمت فيه أول صلاة في عام 859 ميلادية.
حلقات علمية
بدأ التحول من الجامع إلى الجامعة عام 877 ميلادية، عندما تحلق الطلاب حول رجال الدين يتلقون عنهم العلم، فكل منهم له مكان محفوظ، يذهب إليه الطالب ويبدأ كل منهم بقراءة بعض النصوص ويناقش فيها طلابه، ويشرح المعقد منها، وهذه كانت أولى محاضرات علمية داخل المسجد.
يوضح هاشم لـ «الاتحاد»، أن الجامعة اشترطت على طلابها أن يكونوا على درجة عالية من الوعي باللغة العربية الفصحي، وأن يكونوا من حفظة القرآن الكريم، حتى يكونوا على استعداد للمستوى الثاني من الحلقات العلمية، وكان مسجد القرويين أول من يقدم لطلابه مواد غير المصنفات الإسلامية، فهناك يمكن للطلاب دراسة اللغة الإنجليزية والفرنسية، ثم علوم الطب، والرياضيات، والفلك، والفلسفة، وتتابعت العلوم الدنيوية في التسلل حتى كانت أول إجازة في علم الطب في التاريخ منحت من جامعة القرويين.
ومنحت أول إجازة في الطب للطبيب عبد الله بن صالح الكتامي، عام 1207 ميلادية، وسلمت له بحضور القاضي الموثق عبد الله طاهر، إلى جانب الأطباء: ضياء الدين المالقي الملقب بأبي البيطار، وأبو العباس بن مفرج المعروف بالنبطي، وأبو عمر الملقب بالإشبيلي، هذا ما جاء في نص أول إجازة في علم الطب، ولا تزال هذه الوثيقة موجودة في أحد المتاحف العسكرية بالعاصمة المغربية الرباط.
وما زالت جامعة القرويين تقدم خدماتها للطلاب حتى يومنا هذا، ويتراوح أعمار الطلاب بها بين ثلاثة عشر إلى ثلاثين عاماً، وفي الأربعينيات من القرن الماضي كانت الجامعة على موعد لقبول أول مجموعة من الطالبات بها، وما زالت تسمح لهن بالدخول وتلقي العلم حتى الآن.
قبلة العلم
استمرت الجامعة في عملها حتى أصبحت قبلة طلاب العلم من الأندلس، والمشرق العربي، ولم يقتصر طلابها وخريجوها على المسلمين فقط، وإنما فتحت أبوابها أمام أصحاب الديانات الثلاث، فتشير سجلات الجامعة إلى أن العالم اليهودي موسى بن ميمون خرج من بين صفوف طلابها، ثم أصبح مدرساً فيها بمجال الطب والفلسفة.
ثم استقبلت الجامعة جربرت دورياك عالم الرياضيات الفرنسي، كطالب علم قادم من إشبيلية، ليتخرج فيها ويصبح أول من أدخل الأرقام العربية إلى أوروبا، لتحل محل الأرقام الرومانية التي لم تعرف أوروبا غيرها على مر التاريخ.
ولا عجب أن بابا الفاتيكان سيلفستر الثاني جاء إلى القرويين في العام 999 ميلادية، ليسجل التاريخ أنه البابا الوحيد الذي أتقن اللغة العربية، والفضل يعود إلى أساتذته العرب في أقدم جامعة في التاريخ.
الكرد، والعجم، والأندلسيون، والمسلمون الإسبان، والعشائر والقبائل المغربية، والتجار والصناع الراغبون في حضور حلقات العلم، كل هؤلاء كانوا طلاباً في الجامعة يسقون من رحيق علمها، ومن مكتبتها العلمية الضخمة التي ضمت مخطوطات علمية تعود إلى القرن الثالث الهجري، منها مخطوطات لابن خلدون، ابن رشد، وغيرهم من خيرة علماء العرب والأندلس، وما زالت هذه المكتبة تفتح أبوابها لطلاب العلم حتى هذه اللحظة.
هؤلاء الوافدون من خارج مدينة فاس شكلوا أول ظهور للأحياء الجامعية في العالم، حيث ضم الجامع بعد فترة بعض المباني المجاورة ليعيش فيها طلابه القادمون من الخارج، ومن بين هذه المباني كانت هناك ساحة لتناول الطعام، ومن هنا عرف العالم والحضارة الإنسانية الحديثة الأحياء الجامعية، والمدارس الداخلية للوافدين.
عمارة مغربية تراثية
باب الورد، باب الجنائز، باب الشماعين، باب المقصورة، هي أشهر أبواب جامعة القرويين، جميعها مصنوعة من الخشب، وأضيفت إليها الزخارف البرونزية في عهد المرابطين، بعضها صغير مستطيل، والآخر صمم على شكل أقواس حدوة الحصان الهائلة، والمنطقة المحيطة بالجامعة مسقوفة على الطراز المغربي القديم.
أضيف للمسجد بعد بنائه منارة دون قبة وهو برج النفارة، يظهر كأنه مئذنة، ولكنه في الأصل برج مراقبة كان ضمن دار الموقت، وعندما يدخل الزائر إلى قاعة الصلاة، يستشعر فيها روح العمارة المغربية التقليدية في المساجد، فهي بسيطة قليلة الزينة، مع أسقف خشبية توازي صفوف الأقواس.
أما منطقة المحراب في المسجد، فأسسها المرابطون وزينت بالجص المنقوش والملون بورق الذهب واللازورد، وأضيفت إليها النوافذ ذات الزجاج الملون، فضلاً عن القباب المضلعة تتشابه مع قباب جامع غرناطة، وهي قباب زينت بالنقوش العربية والكتابات بالخط الكوفي، فضلاً عن الثريات البرونزية المتدلية من الصحن.
تستمر جامعة القرويين تقدم العلوم الشرعية والعلمية حتى الآن، وتعمل كمنارة للعلم في منطقة شمال أفريقيا، وتستقبل الوافدين وتقر لها الجامعات العلمية حول العالم بالريادة، وتشهد لفاطمة الفهرية مؤسستها بالفضل الذي صنعته، وبالخير الممتد على مدى القرون الماضية.
توسعات مستمرة
أولت الحكومات المتعاقبة على المغرب اهتمامها بجامع وجامعة القرويين، وبدأت أعمال التوسعات عام 956 ميلادية، في عهد الحاكم الأموي عبد الرحمن الناصر الذي أعطى أوامره بمضاعفة مساحة المسجد، وبعدها بعامين أضاف المنصور بن أبي عامر القبة الموجودة في مدخل البلاطة المحورية.
وفي عصر الحكام المرابطون كان جامع القرويين أكبر مسجد في المغرب، بعد أن هدموا المنازل المجاورة للمسجد وأضافوها لمساحته، وأنشأوا القباب، ثم أعيدت صناعة ثريا البلاطة الوسطى في عهد «المرينيون»، وهم الحكام الذين أطلقوا لقب جامعة رسمياً على جامع القرويين.
بدأت مساحة الجامعة صغيرة لا تتجاوز 225 متراً، وبعد كل هذه التوسعات التي تبارى حكام المغرب في إضافتها، وصلت المساحة الإجمالية إلى 5845 متراً، وثمانية عشر باباً مختلفاً.