لكبيرة التونسي (أبوظبي)
أكد اختصاصيون أن التقاعد مرحلة غير محببة للكثيرين ممن لم يخططوا لها، وتعتبر أكثر وقعاً على أصحاب المناصب العليا، بينما أشاروا إلى أن التخطيط والاستعداد الصحيح لهذه المرحلة، يجعل أصحابها يستمتعون بها، بل يعتبرونها بداية حياة سعيدة، خالية من المنغصات وفرصة للقيام بالكثير من الأعمال والهوايات التي كان يصعب القيام بها وسط زحام الحياة والوظيفة والتزامات العمل، كما لفتوا إلى أن المرأة سريعة التكيف مع التقاعد أكثر من الرجل.
الدكتورة بنة يوسف بوزبون، خبير نفسي واجتماعي بمؤسسة التنمية الأسرية، أشارت إلى أن التقاعد كمرحلة عمرية غير محببة لدى الكثيرين، لأن التقاعد في مفهوم البعض، تنازل عن الأدوار والمهام، على الرغم من أن المعنى الصحيح، تقاعد عن المهام الوظيفية، وليس عن دور في المجتمع أو الحياة، موضحة أن البعض يعيش مشاكل نفسية واجتماعية كبيرة.
أكدت بنة يوسف بوزبون، خبير نفسي واجتماعي بمؤسسة التنمية الأسرية أن التقاعد مرحلة تؤثر على الرجل والمرأة، وتترك أثراً نفسياً سلبياً في الحالتين، إذا لم يتم الإعداد لها، لا سيما في الوظائف التي يكون فيها الشخص في مركز القرار، إذ يعتقد هذا الشخص أنه دائم في منصبه، وأن صلاحياته أبدية، وبعد ما يحال إلى التقاعد يفقد هذه الهوية، ويشعر بالاكتئاب ويتصور أنه غير مرغوب فيه، وكأن المفهوم في عقله يقول له إنه تقاعد من الحياة وليس من العمل، وتبقى هذه الفترة أخف على المرأة في بقية الحالات، حيث تبدأ وظيفة جديدة، وهي تربية الأحفاد، والإشراف على البيت الذي يعتبر مملكتها، وغالباً ما تجد النساء ما يشغلهن عن التفكير السلبي.
الوظائف الكبيرة
وأضافت: «المتقاعدون من أصحاب المناصب الإدارية العالية، سواء عند المرأة أو عند الرجل أكثر تأثراً بالمرحلة، ويصابون بأمراض جسمية ونفسية، سببها فقدان المكانة والوجاهة، كما يعتقدون، فتزداد نسبة إصابة بعضهم بالقرحة وأمراض القلب، والضغط، ولا ننسى أن الشخص يكون معرضاً لهذه الأمراض في هذا السن، كما يصاب بأعراض الاكتئاب والقلق، وهناك دراسات علمية في هذا الميدان وجدت أن هناك ارتباطاً شرطياً كبيراً بين فقدان السلطة والنفوذ والوفاة لدى بعض الناس الذين لم يكن لديهم استعداد مسبق للمرحلة، وذلك خلال فترة لا تكاد تزيد على 6 أشهر بعد التقاعد؛ لهذا يجب أن يعمل الفرد على إعداد نفسه إعداداً كبيراً جداً، وعلى المؤسسات أن توفر برامج للإعداد النفسي والوظيفي للمقبلين على التقاعد، من أجل البحث عن الهوية والقيمة الذاتية في مكان آخر، فالتقاعد لا يعني التنحي عن الحياة، ولكن التقاعد عن الوظيفة الرسمية، ويتحول الفرد إلى بناء ذاته مرة أخرى».
دور العائلة
وأكدت بوزبون دور العائلة في تخفيف آثار التقاعد على الأشخاص، حيث يجب عدم التعامل مع المتقاعد على أنه فقد قيمته، لا سيما إذا كان الزوج ذا منصب عالٍ، وفجأة يجد نفسه في البيت، فيتدخل في كل الأمور الكبيرة والصغيرة للأسرة، مما يؤدي إلى بعض المشاكل بين الزوجين، خاصة إذا كانت الزوجة، غير عاملة وكان البيت عبارة عن مملكتها الوحيدة، وقد يحدث أحياناً الانفصال في هذه المرحلة، وعلى الأبناء مراعاة هذه المرحلة، حيث تختلف علاقة الأبناء بالأب من مسؤول إلى شريك، مما يدعمه نفسياً واجتماعياً.
جودة الحياة
ويرى الدكتور محمد أبو العينين أستاذ علم الاجتماع بجامعة الإمارات، أنه وطبقاً لعلم نفس النمو، تنقسم حياة الإنسان إلى مراحل، لكل منها خصائصها، وخلال مرحلة التقاعد يشعر المرء بأن وجوده في الدنيا أصبح أقل قيمة، وقد تنتاب البعض مخاوف من المصير المجهول مع وهن الجسم والتعرض لأمراض الشيخوخة. وأضاف: «لمرحلة ما بعد التقاعد مزايا يمكن أن نستغلها، فمثلاً قد تكون لديه هوايات، قد ينضم لنادٍ اجتماعي، ثقافي، أو يتطوع في أعمال تناسب وقته وصحته وخبرته المهنية، كما يمكنه بعد التقاعد الاستمتاع بوقت الفراغ، وقضاء وقت أطول مع شريك الحياة والأبناء والأحفاد، ويمكنه أيضاً أن يسافر ويرى أماكن كان دائماً يحلم برؤيتها، لا سيما أن الدراسات تؤكد أن كبير السن لا يزال في وقتنا الحالي شاباً نظراً لتقدم الطب ولجودة الحياة».
استثمار الخبرات
عطاء الإنسان ليس له حدود؛ لذلك فإن مرحلة التقاعد لا تقل أهمية عن المراحل السابقة، وهي مرحلة يجب أن يتم التخطيط لها وتنظيمها، لكي يستمر الشخص في عطائه وإنجازاته، هذا ما أكده الدكتور شافع النيادي، متخصص تنمية بشرية، موضحاً أنه يجب على المتقاعد أن يوزع أوقاته بين الروحانيات والأسرة والنواحي المالية والصحية، وملء الفراغ بإنجازات قد يحتاج إليها هو والأسرة والمجتمع، وعليه استثمار المهارات والخبرات.
التطوع سر النجاح
ويرى فرج إسماعيل مبارك رئيس جمعية الإمارات للمتقاعدين، التي ينتسب لها أكثر من 3000 متقاعد، أن إعداد المقبلين على هذه المرحلة وتعزيز الوعي عندهم وشغل أوقات فراغهم واستثمار خبراتهم يعتبر هو الخلاص، وسر نجاح مرحلة ما بعد التقاعد، ولكن رغم ما تقوم به المؤسسات وما يقدم من محاضرات تثقيفية، تبقى هناك حالات شخصية خاصة بكل فرد.
وأضاف: «أقدم العديد من المحاضرات لتعزيز الوعي عند المتقاعدين، وحسب تجربتي، فإن الجمعية مهما قدمت من محاضرات، تبقى هناك حالات تفكير شخصي، ويجب على كل فرد أن تكون له قناعات واستعداد لاستقبال هذه المرحلة بكل إيجابية، والجمعية توفر هذا الفضاء لتبادل الخبرات والاستفادة من تجارب الآخرين، وأظن أن الدور الحقيقي للأشخاص هو بعد التقاعد، ويجب على المتقاعد أن تكون لديه خطة اجتماعية ومالية ويعد نفسه لهذه المرحلة، ويعتبرها مرحلة عطاء وبداية جديدة باستثمار خبراته بطريقته الخاصة وضمن خطة مرنة تناسب سنه ووقته، بحيث يصبح ملك نفسه، وأحث المتقاعدين أو المقبلين على هذه المرحلة على التطوع، كونه أحد الأساليب التي تنقد من الفراغ القاتل، وفرصة لإبراز المواهب والخبرات».
دكتوراه بعد التقاعد
تجارب كثيرة أثبتت أن الحياة تبدأ بعد التقاعد، رغم ما يتخلل هذه المرحلة من صعوبات إنكار ورفض وقلق، ومن هؤلاء الدكتور علي محمد ناجي، 77 عاماً، متقاعد منذ عام 2005، حاصل على دبلوم في مجال الكيمياء، وعمل في مصانع تكرير النفط لمدة 43 سنة في قسم المختبرات، درس الماجستير والدكتوراه في مجال العلوم الإدارية، حين كان يبلغ من العمر 75 عاماً، بعد أن أُحيل إلى التقاعد، أكد أن قرار التقاعد بالنسبة له أصابه بالصدمة، مما دفعه لطلب سنتين إضافيتين، ولكن مع مرور الوقت ندم على ذلك، موضحاً أن مرحلة ما بعد التقاعد كانت ولا زالت أجمل مرحلة في حياته، حيث استكشف فيها نفسه وشكلت له مساحة واسعة من الحرية والمرونة، بحيث أصبح وقته ملك نفسه.
وقال ناجي: وجدت سعادة كبيرة في مرحلة التقاعد، وتعلمت كيف أعد خطة يومية لذا أكاد لا أجد وقت فراغ، حيث شغلت نفسي بالدراسة حبا في العلم والمعرفة وأعتبر الشهادة التي حصلت عليها عندما بلغت 75 عاماً أغلى شهادة، استمتع بالرياضة وممارسة الهوايات والتقرب من الله، فالجانب الروحي مهم جداً خلال هذه المرحلة، كما أني أستمتع بالتواجد وسط أولادي وأحفادي.
شغف البحث والاستكشاف
الكابتن الطيار سمير منصور الهاشمي، الذي يبلغ من العمر 61 سنة، متقاعد منذ عام تقريباً، يعتبر التقاعد مرحلة عطاء وعمل وحياة جديدة استغل خبراته ووظفها بعد التقاعد، فهو خريج بكالوريوس إدارة طيران من الولايات المتحدة الأميركية وطيار مدني في الوقت ذاته، وحاصل على عدة دبلومات مثل: التحقيق في حوادث الطيران، وسيكولوجية الطيران فيما يخص الجانب النفسي للطيارين، والسلامة الجوية، لديه من الهوايات ممارسة الرياضة والقيام بالرحلات البرية والقراءة والمطالعة، ويتمتع الهاشمي بشغف الاستكشاف والبحث، عمل في الطيران الخاص، وحالياً يعمل كاستشاري في مجال الطيران لدراسة جدوى إنشاءات شركة الطيران وقام بإنشاء شركتين في مجال الطيران خاصة به، كما وهناك عدة أسر تتواصل معه للاستفادة من خبراته في مجال الطيران وخاصة الطلاب الراغبين في أن يدرسوا بهذا المجال.
رحلة ممتعة
التقاعد قرار كان مفاجئاً بالنسبة لها، مما أصابها بصدمة كبيرة، لا سيما أنها كانت في قمة العطاء، ظلت أكثر من 3 أشهر في حالة إنكار، لكن بعد دخولها لعدة دورات استطاعت فاطمة راضي الامتثال للواقع، وبدأت تزاول العديد من الهويات التي كانت تعشقها، ولم تكن تمتلك الوقت الكافي للعمل عليها وصقلها، تفرغت الآن وبدأت رحلة ممتعة في ممارسة تصميم الأزياء والمجوهرات، وأصبحت تشارك في المعارض داخل الدولة وخارجها بعد أن أقامت عملاً خاصاً بها.
اقتراح بتعديل المسمى إلى فارس العطاء
إيماناً منها بدور المتقاعد وأهمية الاستفادة من خبراته، حيث وصفته بالكنز، اقترحت المستشارة الأسرية أمل حمد المسافري تغيير مسمى المتقاعد إلى «فارس العطاء» لما يمتلكه من خبرات واسعة ولما قدمه من خدمات للمجتمع.
وشددت على أهمية بناء قاعدة معلوماتية تعنى بحصر وتصنيف الخبرات الموجودة من المتقاعدين وتوظيفها لتأهيل وتوجيه الجيل الجديد، كما أعربت عن أملها بمنح «فارس العطاء» ظرف السعادة، والذي يحمل داخله العديد من الامتيازات والتسهيلات رداً للجميل ووفاء للعطاء، واستثمار هذه الفئة كخبراء ومستشارين في الموارد البشرية الذي يعتبر من أقوى الاستثمارات التي تأتي ثمارها في وقت تختصر فيه العديد من المسافات.