حسين معلوم, كاتب وباحث مصري
نحتاج إلى لحظة تأمل في تراثنا الحضاري الإسلامي.. لحظة ندرك من خلالها هذه اللمحات المضيئة التي ساهم بها العديد من المفكرين العرب والمسلمين من خلال علمهم وأفكارهم، لا لكي نرتكن إليها، ولكن من أجل الاسترشاد بها في الاستعداد للمستقبل والتميز في الحاضر، والانطلاق من المفيد منها أولاً ونتائج منجزات العصر ثانياً.
الكندي، أبويوسف يعقوب بن إسحق (185 - 252هـ/ 801 - 867م)، هو «أول فيلسوف عربي»، وقد برع في الرياضيات والمنطق والطب والفلك.
والكندي، فيلسوف لـ«دولة العقل» في الإسلام، دولة المأمون والمعتصم والواثق، وقد عاصرهم جميعاً، وعمل على نصرة «المعقول الديني» ضداً على الغنوص المانوي والتأويل الباطني، وعمل، في الوقت نفسه، أيضاً على الدفاع عن «المعقول العقلي»، أي: الفلسفة وعلومها، ضد بعض الفقهاء والمتكلمين المعادين لـ«علوم الأوائل».
ولعلَّ أشهر رسائله في شأن الدفاع عن «المعقول العقلي»، هي: «الفلسفة الأولى» التي يُفرِّق فيها بين الفلسفة والإلهيات من جهة، ويُحدد فيها كذلك مجال المعرفة الإنسانية من جهة أخرى، ورؤيته للفلسفة وعلومها من جهة ثالثة أيضاً.
واعتقد الكندي أن هدف اهتمامات ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)، من دراسة طبيعة الوجود ومستوياته، وأنواع الكيانات الموجودة في العالم والعلاقة بينها، هو «معرفة الله»؛ ولهذا فرَّق بين الفلسفة والإلهيات، حيث تركز فهمه لما وراء الطبيعة حول الوحدانية المُطلقة لله سبحانه وتعالى.
وفي رؤيته، فإن هذه الأشكال هي في الحقيقة مفاهيم مجردة، كالنوع أو الجودة أو العلاقة، التي تنطبق على جميع الأشياء المادية والكائنات. ولذا، فإن البشر، كما يوضح، لا يمكنهم تصور تلك الأشياء إلا بمساعدة خارجية، ويميز الكندي في مجال المعرفة، تمييزاً حاسماً، بين «علم الرسل» وبين «علم سائر البشر».
فالأول، تبعاً للنص الوارد في الفلسفة الأولى، يكون: «بلا طلب ولا تكلف ولا بحث ولا بحيلة الرياضيات والمنطق، ولا بزمان، بل مع إرادته جل وتعالى، بتطهير أنفسهم وإنارتها بالحق بتأييده وتسديده وإلهامه ورسالاته، «فإن هذا العلم خاص بالرسل، صلوات الله عليهم، دون البشر… أعني آياتهم الفاصلة لهم عن غيرهم من البشر».
أما الثاني، أي «علم البشر»، وكما هو واضح -من النص السابق- فإنه يكون بالطلب والبحث والاستدلال. وكما يبدو، فإن تأكيد الكندي على أن النبوة خاصة بالرسل، وأنها آيتهم التي تفصلهم عن سائر البشر، يعني «سد الباب» أمام القول بأي طريق آخر للمعرفة، وبالتالي رفض العرفان.
والمعرفة عند الكندي: إما «حسية»، وأداتها الحس وموضوعاتها الأشياء الحسية؛ وإما «عقلية»، وأداتها العقل وموضوعاتها المعقولات.
وتتمثل الفلسفة عند الكندي في «العلم بحقائق الأشياء»، وهدفها البحث عن الحق، إذ نراه يؤكد على أن: «غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل الحق»؛ بل، إن الفلسفة عند الكندي ضروري لها دراسة الرياضيات، فالمرء عنده لا يكون فيلسوفاً إلا إذا درس الرياضيات، التي هي في حقيقتها جسر الفلسفة ومعبر لها. ومن هنا، بنى أبحاثه في الفلسفة على أسس من الرياضيات.
وقد تمكن «فيلسوف العرب»، بفضل منهجه الحسي الرياضي المنطقي، من إثبات تناهي العالم والحركة والزمان، وإثبات حدوث العالم ووجود الله سبحانه وتعالى، وإثبات التوحيد، منشئاً بهذا مذهباً فلسفياً إسلامياً حقيقياً، خالف فيه فلاسفة اليونان بالحجة والبرهان، ومصححاً أقوال القدماء العلمية، وخاصةً فيما يتعلق بالآثار العلوية. ولذلك، نجده يؤكد على أن «حدوث العالم» معناه أن الله أحدثه من لا شيء، وبغير واسطة.
وفي ضوء فهم الكندي للدين على أساس المعرفة الفلسفية العلمية، فسّر اتجاه المخلوقات بحركتها نحو الله سبحانه وتعالى.. إذ، إن كل شيء في الكون، بدءاً من الأحجار إلى النبات، ومن النبات إلى الحيوان، ومن الحيوان إلى الأجرام السماوية، يتجه بحركته إلى الله، وهذه الحركة هي ضرب من «الصلاة الكونية»، ونوع من «تسبيح هذه المخلوقات بحمد الخالق المبدع».
ثم يستشهد بقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ...)، «سورة النور: الآية 41»؛ وقوله سبحانه: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ...)، «سورة الإسراء: الآية 44».
والجدير بالملاحظة، هنا، هو محاولة الكندي في التفريق بين «الوحي» والفلسفة. فقد رأى الكندي أن النبوة والفلسفة طريقتان مختلفتان للوصول إلى الحقيقة؛ ومن ثم، فرَّق بينهما في عدة أوجه.. منها: أن الفيلسوف يصل إلى الحقيقة بتفكيره وبصعوبة بالغة، في حين أن النبي يهديه الله إلى الحقيقة؛ وبالتالي، فإن فهم النبي للحقيقة أوضح وأشمل من فهم الفيلسوف. ومنها: أن قدرة النبي على شرح الحقيقة للناس العاديين، أبلغ وأفضل من قدرة الفيلسوف بكل تأكيد.
بيد أن الناظر في مؤلفات الكندي، يرى أنها تُركز على حدود العقليات، ربما أكثر من اهتمامها بالحدود الدينية؛ ولعل رأيه الخاص الذي اشتهر به حول «واجب الوجود»، من حيث إن هذا القول «أرسطي محض»؛ هو ما دفع معاصريه، خاصة المتشددين منهم، إلى مُخالفته ومؤاخذته عليه.
وفي المجمل، لا يمكن إنكار أن الكندي يأتي في مقدمة محاولات «تنصيب العقل» في الثقافة العربية الإسلامية، وخصوصاً في مواجهة الأطروحات المانوية والباطنية، حيث هاجمها في ميدانها وعمل على تقويض دعائمها برؤية فلسفية عميقة.