د. نزار قبيلات*
ارتبطت القصة الشعبية الأوروبية الأصل «ليلى والذئب» طويلاً في ذاكرة الأطفال ومازال تأثيرها حتى يومنا هذا، فقد باتت أيقونة للفضائل التي تقدم ممثلةً من خلال نماذج إنسانية، فمثلت الأمّ نموذج الحرص، والفتاة نموذج البراءة الطفولية، أما المَكر والخداع فمثله الذئب، ثم جاءت الجدة كنموذجٍ إنساني للدفء والحنان، إذ هذه القصة تحمل مادتها الحكائية الخام تبعاً لثلاثة مشاهد أو مفاصل سردية هي: البداية والتعقيد والنهاية السعيدة، وهي حلقات يقوم عليها البناء السردي لاحقاً، الأول هو مشهد ليلى على عتبة البيت، وقد ارتدت قبّعتها الحمراء وثيابها وحملت بيديها صندوقاً يحمل طعاماً للجدة، أما الثاني فيقف عند مفصل سردي وسطي، حيث يجري حوارٌ موارب وماكر في الطريق إلى بيت الجدة بين الذئب وليلى، وآخر المشاهد هو الحوار الانفعالي الذي دار بين ليلى والذئب، والذي انتهى بابتلاع الجدة ولِبس ثيابها وتقمّصَ طريقتها في الكلام والحركات، وهذا ما يسميه النّقاد بالخطاطة السردية للحكاية، إلا أن اللافت هنا أن هذه المادة الحكائية تتكرر كل ليلة على مسامع الأطفال، لكن وفق طقس قصصي مختلف سببه أن هذه المادة يتم قولبتها ويتم تغيير صيغها السردية في كل مرّة، ما يجعل تلقيها واستحسانها مختلفاً في كل مرة تروى فيها على مسامع الأطفال، إذ مضامين الفضيلة والأخلاق التي تحملها القصة في طياتها راسخة ومطلقة في طبيعتها، يجري تعزيزها في كل لحظة تتم فيها رواية القصة من خلال ذلك التقولب الذي تُجريه الساردة (الجدّة) على المشاهد الثلاثة السابقة الذكر.
حكايا الجدات ليست مجرد تراث غير مادي، بل هي رصيد معنوي وتعليمي أخذ يتعرّض للخطر والتلاشي نتيجة انسحابه أمام طغيان وسائل التكنولوجيا الحديثة التي باتت تُستعمل للترفية وملء وقت الفراغ على حساب استثمار تلك الوسائل بشكل حسن في سبل التعلّم ونقل المعرفة وتطبيقاتها، فالجدة راوٍ يحتل مرتبة فضلى وقدوة حسنة للأحفاد، غير أن رقمنة هذا الراوي أخلت ليس في القصة بل وبعمود توازن الأسرة والمجتمع لاحقاً، وذلك نتيجة فقدان المستمع (الطفل) لأثر جدته التي تمتلك خبرة حياتية ومقدرة على تفهّم حاجيات أحفادها وصياغتها في كل مرة تتم فيها رواية القصة من جديد، فقد تستطيع التكنولوجيا ووسائلها حفظ التراث من النسيان! لكنها لن تستطيع أن تحلّ محل صوت الجدة وعطفها وحنانها، فالجدة حارسة التراث مادياً كان أم معنوياً، في حين التكنولوجيا وسيلة صماء، والقصص لا يمكن أن تصل إلى لحظات الذروة إلا بتلك الحماسة والمقدرة التوجيهية التي تتستر بصوت الجدة وبحضورها الحقيقي.
*أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية