الإثنين 27 يناير 2025 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الحوار الإسلامي المسيحي.. بين مؤرّخ مكافح وعالِم ملتزم

محمد الطالبي وموريس بورمانس
26 يناير 2025 00:57

د. عزالدّين عناية
خصّت مجلّة «إسلاموكريستِيانا» (دراسات إسلامية مسيحية)، الصادرة عن المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية (بيزاي) بروما، في عددها الأخير، عَلَمين من أعلام الحوار الإسلامي المسيحي، بتناول أثرهما في المجال، وهما راهب تنظيم الآباء البيض الفرنسي موريس بورمانس، والمؤرّخ التونسي محمد الطالبي، اللذيْن رحلا عن دنيانا خلال عام 2017، بعد مسيرة حوارية حافلة. فقد شغلت قضايا الحوار الرجلين، على مدى نصف قرن، من الستينيات إلى مطلع الألفية الثالثة، سواء عبر صفحات المجلّة المذكورة، أو عبر المنشورات المشتركة أو الأعمال المنفردة. صاغا خلالها تقليداً حوارياً عميقاً داخل الثقافتين الكاثوليكية والإسلامية، حتى صار ذكر الواحد مدعاة لاستحضار الآخر.
قضى الراهب بورمانس ردحاً طويلاً من حياته بين تونس والجزائر، لمّا كان مقرّ معهد الآباء البيض (إبْلا) في تونس وإلى غاية نقله إلى مدينة روما في إيطاليا سنة 1964، ليتّخذ مسمى «بيزاي» ويتولى بورمانس فيه السهر على تكوين الرهبان والراهبات المتخصّصين في الشأن العربي والدين الإسلامي. وأمّا قرينه الطالبي فقد كان اتّصاله بعالم المسيحية يافعاً، إبان الحقبة الاستعمارية في تونس، تلت ذلك إقامة في فرنسا أثناء الدراسة الجامعية، ثم انغماس في الشأن المسيحي بوساطة نسج علاقات متشابكة مع طائفة واسعة من اللاهوتيين والمفكرين الغربيين. فقد أُطلق على بورمانس «عالِم الإسلاميات الملتزم» لاشتغاله الدؤوب بقضايا الإسلام الفقهية والعقدية، وكذلك انغماسه في قضايا الحوار، ويمكن بالمقابل أن نطلق على الطالبي المؤرّخ المكافح، لِما تميّز به من حسّ نقدي ومنزع تجديدي تجاه الموروث الإسلامي، ردَفَه حرص على تطوير وعي معمَّق بالآخر المسيحي.

سؤال ما بعد الرحيل
والسؤال المطروح لدينا ونحن نستعيد سيرة الرجلين: ماذا تُعلّمنا خمسة عقود من التواصل بين الطالبي وبورمانس، رغم ما شابها من جفاء في طورها الأخير؟ وفيمَ تتمثّل تركة الرجلين لجيل الحوار اللاحق؟
لقد مثّل الثنائي طليعة التقارب الإسلامي المسيحي في تمثّلاته الشاملة، حتى خيّم ظلّ الرجلين على تقليد الحوار طيلة عقود. كان بورمانس والطالبي يعبّران عن مشاغل نخبة مستنفَرَة تستحضر قضايا اجتماعية وسياسية ودينية تشغل قطاعات واسعة من الرأي العام، العربي والغربي، فكانا خير مثال للمحاور الحريص على الاهتمام بقضايا العصر. فعلى مدى سنوات أبرز الطالبي حاجة المسلمين إلى وعي علمي بالمسيحية، أي إلى دراية بقضايا اللواهيت المسيحية، وبالمثل إلى إحاطة بمؤسسات الغرب الدينية، وما لهما من حضور فاعل في ساحة الاجتماع. أيقن فيها الطالبي أنّ الحوار معنيّ بتخطّي المستوى العاطفي إلى التأسيس العلمي، والخروج من محدودية الأفراد إلى رحابة المؤسسات، حتى يتحوّل إلى فعل مؤثر. وبالمقابل وجد الأب بورمانس نفسه، منذ صدور قرارات مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965)، معنيّاً مباشرة بقضايا الحوار مع المسلمين. وقد بدا مقاله الصادر في «إسلاموكريستيانا» (4.1978) «ما الذي بوسع المسيحيين والمسلمين قوله أو فعله في عالم اليوم؟» بمثابة المانفستو التأسيسي لمشروع الحوار المنشود.
فقد كان الرجلان -بورمانس والطالبي- على دراية معمَّقة باستراتيجيات بعضهما البعض. يتابع كلاهما عن كثب ما يعتمل في الواقع العربي الإسلامي، وفي الأوساط الغربية من طروحات وتيارات ورؤى على صلة بالحوار، وما يحول دون تحقيق وعوده.
لا يخفي الطالبي ما كان يحزّ في نفسه من وجود علماء إسلاميات مسيحيين وغياب علماء مسيحيات مسلمين، وساحة الحوار في أمسّ الحاجة إلى تلك الفئة. وتبدو تلك الحسرة متأتّية جراء إدراك أن خطاب الإسلام الواعي مع العالم المسيحي، لن ترسى دعائمه إلا عبر إلمام علمي بتلك الديانة. فإن تكن كلّيات اللاهوت والكليات المدنية في الدول الغربية، تولي عناية لتدريس الإسلام وتاريخه وتشريعاته، فضلاً عن الاهتمام بتدريس لغة الضاد ولهجاتها، فحريّ بأبناء الثقافة الإسلامية أيضاً أن يُولوا الدين والاجتماع المسيحيين العناية اللازمة لرصد التحوّلات والتطوّرات.
إذ في ظلّ موجة الانجذاب المبكرة نحو «حوار الأديان»، من الجانب العربي، جرى خوض العملية بمعزل عن متطلّباتها المعرفية وشروطها العلمية، أي دون التعويل على الشروط اللازمة لبلوغ النتائج المرجوة، وبقاء العملية في حيز الخطابات الدعائية. وسواء تعلّق الأمر بمجال الوعي بالمسيحية، أو بمجال الحوار مع المسيحيين، أمام الدارس المسلم حقلٌ رحبٌ ينطلق من البلاد العربية، ويمتدّ إلى أصقاع عدّة في العالم، ما عادت الثقافة التقليدية قادرة على استيعابه.

الاهتمام الأفقي
في واقع الأمر تظلّ الأدوات الموظَّفة في المؤسسات الجامعية العربية هزيلة، ولا تفي بوعي المسيحية في بعديها الداخلي والخارجي. إذ عادة ما تطغى في الدراسة قضايا عقدية (مثل التثليث، والتجسّد، والنظر في كتابة الأناجيل، فضلاً عن قضايا أخرى مثل مفاهيم الفداء والخلاص وفي أحسن الأحوال تتسلّط مقارنات ليتورجية باهتة، تقنع بترصيف الطقوس من الجانبين) وهي محاور أقرب إلى التناول الردودي منه إلى المواكَبة الحيّة لما يعيشه العالم المسيحي. وتكاد تغيب من تلك المعالَجة جلّ المدارس الفكرية واللاهوتية، التي طبعت مسارات المسيحية خلال الفترة الحديثة. وهذا المدخل الحيّ والمستجدّ في المسيحية هو ما نحن في أمسّ الحاجة إليه.
صحيح نحن نقف على ميراث هائل بخصوص المسيحية، سواء في بلاد المشرق أو في بلاد المغرب، ولكن السؤال المطروح هو كيف نستعيد تلك المعارف بشكل يواكب بنية الفكر الحديث ويستفيد من المناهج الحديثة؟ وبوجه عام، في دراساتنا المعاصرة نحن معنيون بالخروج من الطابع الجدلي مع المسيحية، إلى إرساء تقليد فهمي، يُقدّر الأمور حقّ قدرها ويبوّأ المتابَعة العلمية المنزلة التي تستحقّها. وبما يعني لدينا، التحول بدراسة المسيحية من الاهتمام العمودي إلى الاهتمام الأفقي، والنظر إلى الدين كمعطى حياتي، وليس كمعطى ما فوق تاريخي، أي الانزياح باتجاه الانشغال بالإنساني في مختلف أبعاده السوسيولوجية والفلسفية والتاريخية.
بشكل يُفترض فيه أن تكون الأوساط الأكاديمية، المعنية بالشأن الديني في البلاد العربية، مبادِرة إلى ترسيخ تقاليد علمية جديدة في مقارَبة المسيحية، بما يقلّص من أجواء الانكماش السائدة في الأوساط اللاهوتية المسيحية، ويهفت من حالات الاغتراب في الأوساط الإسلامية في تناولها للمغاير الديني، وإرساء مقاربات علمية وتقاليد حداثية تتناول قضايا فكرية بخصوص المسيحية، تعيد ترتيب العلاقات في الداخل العربي، وتتواصل مع العالم برؤى حداثية معنية بالدراسات الدينية عامة.
الملاحظ أن القراءة العربية للمسيحية لا تزال رهينة نظرة قديمة في مجملها، في وقت شهدت فيه المسيحية تبدلات هائلة بدت جليّة في الحضور النافذ في السياسة والاجتماع، وهو ما يتطلب تنبّهاً لما يجري في الساحة الدينية العالمية.
صحيح تعكّرَ صفو الحوار بين الطالبي وبورمانس في آخر مطافاته، وبلغ درجة القطيعة بين الرجلين، ولعلّ الأسباب متنوّعة في ذلك، ولكن الحوار الإسلامي المسيحي يظلّ مطلباً لا غنى عنه.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©