إيهاب الملاح
ثمة إجماع بأن الإمارات بثقلها وحضورها وإمكاناتها الكبيرة، دولة وحكومة وشعباً، تمارس منذ عقود أدوارها ومسؤولياتها التاريخية والإنسانية تجاه الثقافة العربية والانخراط بقوة وتنافسية في مضمار ما بات يعرف بـ «القوة الناعمة» للأمم والشعوب وأبناء الثقافات المختلفة.
دورة جديدة متألقة من دورات معرض الشارقة الدولي للكتاب، تتأهب للانطلاق خلال الفترة من 06 نوفمبر وحتى 16 نوفمبر القادم، وتجتذب عشاق الكتاب والفكر والمعرفة من جميع أنحاء العالم.
دورةٌ يجدد بها المعرض - الذي تأسس سنة 1982 من قبل صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة - شبابَه ودماءَه، ويحقَّق رؤية تأسيسه الطموح لمجتمع قارئ ومحب للمعرفة.
وعلى مدى دوراته الفائتة، استطاعت الشارقة بمعرضها للكتاب أن تكون فريدة من فرائد معارض الكتاب في العالم أجمع، تنظيماً وفعاليات ومحاور للنشاط، فضلاً عن تواصلها الرائد مع رموز وأعلام الإبداع الفكري والثقافي والعلمي والإنساني في العالم أجمع.
على مدى 43 عاماً، أصبح معرض الشارقة الدولي للكتاب منصة رائدة لتعزيز التبادل الثقافي والفكري على مستوى العالم. ليس هناك من يماري في أن معرض الشارقة صار من المعارض الثلاث الأكبر في العالم (إن لم يكن فعلياً الأكبر)، تنظيماً وحضوراً وفعاليات، وإقبالاً من الجمهور وتداولاً لبيع الكتاب وشرائه، وليس أدل على ذلك من الإقبال الكبير والمتزايد عاماً بعد عام من العارضين والناشرين العرب والأجانب.
معرض يغتني سنوياً بفرص ومبادرات رائعة للناشرين والمؤسسات والهيئات والحكومات، وكل ما يتصل بصناعة الكتاب والمحتوى، ويوفر الإمكانات لتيسير العرض والتبادل والبيع والشراء وإتاحة أحدث مكتسبات الجنس البشري في الفكر والثقافة والعلوم والإنسانيات، كل ذلك خلال فعاليات المعرض وما يناظره من المؤتمرات والمبادرات والمعارض الدولية التي تنظمها «هيئة الشارقة للكتاب» مثل «مؤتمر الناشرين»، و«مؤتمر المكتبات»، و«مؤتمر الموزعين الدولي»، والتي لعبت دوراً أساسياً في النهوض بصناعة النشر على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، إلى جانب فرص بيع وشراء حقوق النشر، من خلال «وكالة الشارقة الدولية للحقوق الأدبية»، وتنشيط حركة الترجمة بين الثقافات المختلفة.
إن «الشارقة» صارت، ودون مبالغة، الحاضنة الثقافية العربية التي تزدهي أيامها على مدار العام، وتحفل مدنها وأحياؤها ضمن النشاط الثقافي العام في الإمارات، من أقصاها إلى أقصاها ومن أدناها إلى أدناها، بكل ما يؤكد الأصالة العربية، ويحتفي بمكوناتها وعناصرها المشكِّلة لخصوصيتها، وفي ذات الوقت، ترحب بالجديد العصري، وبكل ما يخدم ويرسخ هذا التوجه التنموي المتسارع، والنزوع النهضوي الحقيقي، في تمازج يحقق المعادلة الصعبة: لا نهوض بلا هوية، ولا تقدم بلا انفتاح، ولا منافسة إلا بالأخذ بالأسباب وامتلاك الوعي الحقيقي والطموح المشروع والرؤية العامة الشاملة القادرة على تجسيد هذا الطموح.. وهذا ما فعلته، وتفعله بدأب ووعي، الشارقةُ الحاضرة الثقافية التنويرية الأكبر عربياً الآن بلا خلاف.
الثقافة للجميع
ومن بين عديد الأنشطة والفعاليات والتجليات للسياسات الثقافية الإماراتية، وفي القلب منها الشارقة، يأتي معرض الشارقة للكتاب درة هذا النشاط، وفريدة هذه السياسات الثقافية الطموح، ليمثل خلال الأيام العشرة التي تتألق فيها المدينة العربية الأصيلة نبض الثقافة العربية الحية، ويجمع صفوة العقول والمبدعين من أنحاء العالم، يقدمون خلاصة أفكارهم وزبدة إبداعاتهم ويتبادلون الخبرات والمعارف والرؤى.
في معرض الشارقة، كما في معرض أبوظبي، تتحقق المعادلة: الثقافة حق للجميع، وكذلك القراءة ونشر المعرفة، مناسبة لاجتماع النخب الثقافية والفكرية والفنية، وأيضاً للجمهور ومحبي القراءة والفنون والآداب.. هذا هو غاية أي نشاط ثقافي.. والإقبال عليه ومتابعته، هو مؤشر نجاحه وتألقه وازدهاره.
قائمة طويلة من الأسماء المؤثرة في عوالم الكتابة والإبداع والتأثير استضافتها الشارقة على مدى السنوات الماضية. ويختار المعرض في كل دورة من دوراته شخصية مؤثرة يحتفي بها وبإنجازها، يكرم دور النشر التاريخية والعريقة، وأصحاب الإنجاز الملموس، يقدم معرض الشارقة سنوياً جوائزه للإبداع محلياً وعربياً وعالمياً.. من بين أهداف معارض الكتاب الناجحة الاحتفاء بالنصوص والأعمال القيمة، وبأصحابها، وشخصية المعرض هذا العام هي الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي. وهنا تكمن واحدة من أهم أدوار معارض الكتاب في العالم أجمع، أن يكون ساحة وفرصة ومناسبة يلتقي فيها صناع المعرفة وكبار المبدعين بنظرائهم أولاً من جميع البلدان والثقافات، وبجمهور محب ومتابع ومتحمس وشغوف بلقاء كتابهم الجماهيريين والتحاور معهم.
دور ثقافي ومجتمعي
ولا يمكن قراءة أو تحليل الدور الثقافي والمجتمعي والإنساني الذي يلعبه معرض الشارقة للكتاب على مدى دوراته الاثنتين والأربعين، أو معارض الكتاب في الإمارات عموماً، وعلى رأسها معرض أبوظبي للكتاب، من دون فهم وتحليل السياسة الثقافية الرائدة التي تنتهجها الإمارات عموماً، والشارقة في القلب من هذه السياسات والتوجهات والتجليات.
إن «الثقافة» أو «المنتج الثقافي» منتج ذو خصوصية لطبيعته ومحتواه ومتعاطيه على السواء، فيما صار الآن يعرف بالصناعات الثقافية، ولا يتصدى لهذه الصناعات الثقيلة (وضمنها الصناعات الثقافية أو الإبداعية بطبيعة الحال) إلا أصحاب الرؤى الواعية الفاهمة لأهمية الثقافة وأدوارها التأسيسية الممتدة المدى، لأننا في زمن تحاول فيه خفافيش الظلام أن تنهش قيمنا وهويتنا، وتطمس حضارتنا، وتسعى إلى أن تعيدنا القهقرى إلى كهوف الظلام والجهل والتخلف.
وعليه، فإن أي مثقف جاد ومهموم بقضايا الفكر العربي، ومتابع للشأن الثقافي في العالم العربي، يدرك تماماً عظمة الدور التنويري الذي لعبته، وتلعبه، دولة الإمارات العربية المتحدة طوال تاريخها، وتجلياتها الثقافية الكبرى، وفي القلب منها معارض الكتاب، ومعرض الشارقة بالأخص.
منذ انطلاق معرض الشارقة وهو يمارس أدواره بتؤدة وعلى مهل وتأن واستشراف نافذ للمستقبل، وبعد أربعة عقود كاملة من انطلاقه راكم خلالها دوراتٍ فائقة التألق والنجاح والتميز، لم يعد أحد يماري فيما حققه المعرض من تاريخ مشرف ومزهر، وأصبح دون أي مبالغة «وجهة» ثقافية عالمية رائدة يتطلع إليها كل عام المشتغلون بالفكر والثقافة والإبداع والتواصل الإنساني. وليس فقط وجهة عالمية رائدة للمشاركة والتمتع بكل ما يتيحه المعرض من مبادرات وفعاليات وخبرات، بل صار أيضا مُورِّداً للخبرة والمعرفة في تأسيس وإدارة معارض الكتاب ونقل هذه الخبرات إلى من يحتاجها للأشقاء في العروبة والإنسانية معاً.
صار معرض الشارقة كرنفالاً حقيقياً لتدعيم أواصر المحبة الإنسانية، وتدعيم قيم المعرفة والتسامح ونشر العلوم والفنون والآداب والاحتفاء بالقامات الكبرى وأصحاب المنجزات الإبداعية والثقافية.. وتكريمهم، فضلاً عن توثيق هذا الجهد البشري ونشره وإفادة البشرية بأسرها بنواتج هذه اللقاءات والفعاليات والدورات.
نبض السياسات الثقافية
منذ نشأتها، ودولة الإمارات تمثل بؤرة إشعاع ثقافي وحضاري بوعي قيادتها الرشيدة، وبالمؤسسات الشاهقة التي أسستها، والرعاية التي أولتها للفنون والآداب والعلوم والرياضة والثقافة، وكل مناحي النشاط الإنساني، وإنتاجه الفكري والإبداعي والمادي على السواء. ثمة نشاط متواصل لا يكف خلال العقود الأخيرة في كل فروع ومجالات الثقافة العربية والإسلامية، اللغة العربية، التراث، الأدب، الفنون.. إلخ، وذلك عبر إقامة عشرات الفعاليات طوال العام: مناسبات محلية ودولية، مهرجانات وعروض فنية، معارض كتب، مبادرات ثقافية.. إلخ.
ولا أحد يستطيع أن يتجاهل الأدوار العديدة التي تضطلع بها الإمارات في المشهد الثقافي الخليجي والعربي، بل والعالمي أيضاً، على كل الأصعدة: دعم المواهب واحتضانها، تشجيع الكفاءات في كل المجالات، إصدار المجلات، والصحف، تنظيم المؤتمرات العالمية الحاشدة، إقامة المنتديات الدولية، مراكز الأبحاث المتخصصة، المسابقات التنافسية والجوائز، الإعلام والميديا الحديثة... إلخ.
والمتابع بدقة للمشهد الثقافي والسياسات الثقافية التنظيمية، في السنوات الأخيرة، يدرك بغير عناء المساحة الهائلة التي ملأتها الإمارات، فعلاً ونشاطاً واستثماراً، تكاد الإمارات تكون الدولة العربية الأكبر الآن من حيث حجم الإسهام الثقافي الهائل والاستثمار في الموارد البشرية والخبرات المعرفية والكفاءات، وعلى كل المستويات، معارض، فعاليات، جوائز، كتب، ترجمة، مبادرات ثقافية، أنشطة هائلة داخلياً وخارجياً، ولا أظنني أبالغ لو قلت إن دولة الإمارات هي الحاضنة الشرعية الآن للقوة الناعمة العربية.