قدم عبد العزيز النصافي «أغنيته للغيم»، وهي رواية تتحرك معها بوصلة الخطاب على تقابلات بين الأغنية والغيمة في تدشين حبكتها الخاصة، مما يجعل الغيمة والأغنية معاً بطلتي النص، ولا تمضي إحداهما إلا عبر الالتفاف على الأخرى، وتلعب الأغنية والغيمة لعبة المقاومة الناعمة، وكأنهما نغمتان موسيقيتان ما إن تنتهي واحدة حتى تذوب في الأخرى، والمدهش هنا هو ذوبان السارد نفسه في النص مما ينتج عنه تشابك الحبكة كما موجة تسيل من فوق الماء مندمجةً فيه ومتسنمةً له، وأول بوادر الاشتباك تكشفت حين جهر الكاتب بنيته: (لم أخش من الوقوع في غابةٍ تحترق، أو جبالٍ تشتعل، أو مدينةٍ تنفجر)، فالمدينة المحترقة هي معنى روائي أصيل، بينما الغابة والجبل يمثلان نسيجاً بين الغيمة والأغنية، وهو أمر ستكشف عنه لغة الإهداء التي رسمها الكاتب السارد لنصه، حيث يهدي حكايته أو سرديته (للصبايا الفاتنات وللشعراء المجانين وللنقاد الذين يعجبهم العجب وفي أفواههم شهْد العسل وماء الورد)، وهذا إهداء يسير في شرط الحبكة ودهشاتها لولا أن النقاد من هذا النوع الموصوف في الإهداء هو نوع نادر ولن يوجد إلا إن وقع الناقد في حال الدهشة مع نص مجنون يتشابك فيه الاستثنائيون مع الشعراء المجانين، ويقتربون من الفلاحين الذين ينامون بجوار أشجارهم وأغنامهم وطيورهم، ومع البسطاء الحالمين، وهؤلاء هم كائنات الرواية وهي كائنات جبلية أو من نسل الغابة أو الصحراء الحالمة بزمن الطلل والترحال ولوعة الوقوف والتباكي وتذكار الحبيب والديار، كما هو الإرث الصحراوي المتصل ذاكرةً وواقعاً في الأغنية وفي الغيمة المتوشحة بالنجوم والليل، وهؤلاء لن يفرطوا بالأغنية ولن يناموا إلا تحت غيمة تحتضن الأغنية وتحتضن لحظة اللا واقع ويتم تدجين النقاد ليصبحوا في صف الحالمين.
على أن النص قد قرر التمرد منذ الصفحات الأولى للكتاب، وسار ليثبت أن النص نص متعالٍ على شرط الواقع المؤسسي، وهو لذلك لحظة تحرير للغة وللروح والضاغط اللغوي الذي يريد أن ينفجر، فإما أن يكون قصيدةً كما حدث لابن زريق البغدادي الذي هاجر لكي يكتب قصيدة ثم يموت، أو موسيقى كما حدث لبيتهوفن الذي كتب أجمل سمفونياته بعد أن فقد سمعه ومات دون أن يسمعها، فقط حرّك يديه وأدار الفرقة التي عزفت الإيقاعات فسمعها العالم كله إلا صاحبها بمثل ما أن ابن زريق هو الوحيد في الكون الذي لم يسمع قصيدته.
وفي جو هذا التداخل بين المعنى والمعنى المشاكس، ولدت أغنية النصافي لتكون روايةً لتفاعلات صوت الأرض، متمثلاً بالغابة والأغنية مع صوت الغيمة التي تمطر شعراً وحكايات تحملها الصبايا الفاتنات، ويزفها مجانين الشعراء وسط طيور الفلاحين وأغنامهم، وأحلام البسطاء، وهنا تشم رائحة الأرض تتصاعد من نص يسرد حال النفس البشرية حين تتمازج مع الكائنات والنباتات والأرواح المتعلقة بالفرح، ودهشة اللغة الكاسرة للحدود المصطلحية، مما جعل اللغة تحتفل بتجانسها وتماهيها مع لحظة الإبداع، ومن ثم تكتب رواية الأغنية القادمة من الغيم.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض