الأحد 29 سبتمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

رحلة إبداعية في استكشاف التقاليد الموسيقية للشحوح

رحلة إبداعية في استكشاف التقاليد الموسيقية للشحوح
29 سبتمبر 2024 01:39

محمد عبدالسميع

القول إنّ «الموسيقى هي لغة الشعوب» قولٌ صحيح، تدعمه هذه «التراثات» المحمولة على الموسيقى المعبّرة في حقيقتها عن المجتمع وسِماته الاجتماعية وسلوكه في المظاهر الاحتفالية ورؤيته للحياة بشكلٍ عام. والدول تفزع إلى تراثها وتقرأه وتبذل لأجله الوقت والمال لكي يكون متاحاً للاطلاع، ويعطي صورةً عن مجتمعها والتأثيرات الحضارية والجغرافية والأطياف السكانية التي مرّت عليه.  
وفي هذا الملف الذي يتزين بإبداعات عدسة المصور الفوتوغرافي سالم الصوافي، نستعرض أهمية وتفاصيل مشروع «استكشاف التقاليد الموسيقية للشحوح» الذي تم تمويله من مؤسسة الشيخ سعود بن صقر القاسمي لبحوث السياسات، وأشرف عليه كارلوس خويديس الأستاذ المشارك في الموسيقى بجامعة نيويورك أبوظبي، حيث نجد أنفسنا أمام تراثٍ عريق محمول على الغناء أو الصوت والموسيقى، ويدرك العلماء والخبراء أنّ الموسيقى ليست فقط في الألحان الظاهرة، وإنما في ما تحمله هذه الألحان من معانٍ دالّة، وما يتمخض من معانٍ عن الصوت الإنساني الذي يتخلل الأهازيج والرقصات التراثيّة وألوان التعبير الثقافي الفلكلوري، ولذلك فقد كانت التقاليد الموسيقية لقبيلة «الشحوح» في شمال دولة الإمارات العربية المتحدة تقاليد راسخة تحيلنا إلى هذا التنوع الرائع في الدولة من خلال تراثها، ومدى التأثير والتأثّر بمحيطها الإنساني في أفريقيا وآسيا.
تهتم الدراسات عادةً بسبر أغوار التقاليد والموسيقى والغناء والأصوات، ليس فقط لأمور احتفاليّة، ولكن لقراءة المضمون والجوهر في كل ذلك. 
وفي حالة قبيلة الشحوح، يمكن أن ندرس بكل ارتياح من المصادر التراثيّة ومن صدور المعمرين والمهتمين والجمعيات العاملة، أربعة عناصر، هي: «الندبة»، و«الرواح»، و«رزيف» و«المهوبي» الشحوح، وما يصبّ في ذلك من تقاليد موسيقية صوتية تراثية.
ومن هذه الدراسات دراسة قيّمة قام بها كارلوس جويديس، الأستاذ المشارك في الموسيقى بجامعة أبوظبي، وهذه الدراسة تضعنا باستنتاجات الباحث في جولته الميدانية ومنهجه العلمي، في استكشاف التقاليد الموسيقية لقبيلة الشحوح، دارساً موضوع التنوع العرقي والتأثيرات الثقافية في الموسيقى الخليجية بعامة، ذاهباً من بعد ذلك إلى قراءة جذور قبيلة الشحوح، وفقاً لأهم المصادر البحثية، ومن ثم يدرس العناصر الأربعة، كتقاليد موسيقية متوارثة، معرّفاً الندبة والرواح والرزيف والمهوبي، ومكاشفاً بأهمية البحث في مثل هذه المواضيع، وضرورة توفير تسجيلات نوعية سمعية وبصرية لتراث هذه القبيلة، نحو إنشاء محتوى سمعي بصري عالي الجودة، يصوّر التقاليد الموسيقية لقبيلة الشحوح العريقة، خالصاً من بعد ذلك إلى توصيات يمكن الاستهداء بها في أهمية المشروع البحثي والفريق العامل ميدانياً، والتأسيس عليه لتحفيز الإبداعات المعاصرة حول التقاليد المحلية.
هذا التقرير الميداني للدكتور كارلوس جويديس، وهو من تمويل مؤسسة الشيخ سعود بن صقر القاسمي لبحوث السياسة العامة، اشتمل على تسجيلات للممارسات الموسيقية للقبيلة، ومناقشة جماعية مركّزة، ومقابلات فردية، بهدف تكوين فهم أفضل للأشكال الموسيقية لقبيلة الشحوح وعلاقتها بالقيم الاجتماعية للقبيلة والهوية الثقافية، فتم استخدام أحدث معدات وتقنيات التسجيل لإنتاج أربعة تسجيلات عالية الجودة، لإنشاء أفلام وثائقية قصيرة وغنية بالمعلومات وثنائية اللغة حول قبيلة الشحوح.
ويرى الباحث، أنّ جمع هذه المعرفة وتوثيقها يُعدّ أمراً مهماً، لأنه يوفر نظرة ثاقبة للممارسات الثقافية للقبيلة التي سكنت الإمارات منذ عصور ما قبل الإسلام. وتحت عنوان «السياق والخلفية»، يؤكد الباحث وفريقه الميداني التنوع العرقي، كسِمة مميزة للخليج العربي، نتيجةً للروابط التجارية والسياسية مع المجتمعات الأخرى على شواطئ المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي، ويستند في ذلك إلى مراجع مثبتة في بحثه، دارساً ما تحمله هذه المصادر في البصمة الوراثية لشرق أفريقيا وجنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية، حيث كانت هذه البصمة موجودة بالفعل بقوة بين سكان الخليج من وقت طويل قبل القرن العشرين، ليشير إلى الازدهار النفطي وتدفق العمال المغتربين إلى المنطقة، وكون حوض الخليج ملجأ للعديد من المجموعات الدينية واللغوية الغريبة، فكان انصهار الثقافات مدار بحث لعلماء الموسيقى في محاولة فهم التأثيرات العديدة التي تؤثر في الموسيقى في هذه المنطقة، وكذلك دراسة التأثيرات الأفريقية في الثقافة والموسيقى الإماراتية، وبالتحديد كيف تم استيراد ممارسات الشفاء الروحية، مثل الزار من أفريقيا، وتعديلها وفق متطلبات الممارسات الإسلامية وقواعد الأخلاق، وكيف يمكن سماع أنماط الموسيقى من شرق أفريقيا، مثل: النوبان، والزار، والليوا «التي تغنى باللغة السواحلية» اليوم في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكذلك الأساليب البدوية الأكثر شيوعاً، مثل رقصة العيّالة.
عابرة لزمن
ويرى الباحث كارلوس جويديس، أنه لم يُنشر الكثير من الدراسات باللغة الإنجليزية عن الشحوح، ويورد رأياً للباحث فالح حنظل، الذي يرى أنّ الشحوح يعرفون بالقبائل التي هاجرت أثناء هدم سد مأرب في اليمن عام 450 م، وكانوا يسكنون منطقة رؤوس الجبال التي تمتد من «كمزار» وحتى «دبا»، بما في ذلك أجزاء مما يعرف الآن برأس الخيمة. كما يشير الباحث إلى فئة البدو من القبيلة والساكنين الجبال والعاملين في الزراعة والري والتجارة في المدن، وسكان المدن وأهل البحر الذين تعتمد حياتهم على الصيد، ومعظمه صيد الأسماك، وقد توسعوا على مرّ السنين ليصلوا وينتشروا في المنطقة الشمالية من الإمارات العربية المتحدة بشكل رئيس في رأس الخيمة.
وتحت عنوان «التقاليد الموسيقية للشحوح»، يؤكد الباحث أنّ التقاليد الموسيقية في دولة الإمارات العربية المتحدة من جيل إلى جيل تجسّد شكلًا من أشكال الفن الذي يقاوم التغيرات عبر الزمن، مقتدياً بمقولة  المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، «من لا يعرف ماضيه لا يعرف حاضره ولا مستقبله».
أمّا فن «الندبة»، والذي يسمى «الكبكوب»، أو المجموعة، فهي لفظة مشتقة من الجذر نَدَب، وتعني العويل أو النواح أو الصراخ، وهي شكل مشهور من أشكال التعبير الصوتي في المناطق الجبلية بالمنطقة الشمالية في دولة الإمارات العربية المتحدة ومسندم، وتحديداً يستخدم هذا الفن في قبيلة الشحي التي تضمّ قبائل بني شميلي والحبسي والظهوري، وهو مقابل فن العازي في الفخر والثناء، كما تشير إلى ذلك مصادر يوردها الباحث في بحثه الذي يصف «الندبة» بوجود مجموعة من عشرة رجال أو أكثر يطلق عليهم اسم «الرديدة»، من عائلة النديب أو جيرانه، وعادةً ما يكون الندّيب الأكبر سنًّا بين المجموعة أو يكون رجلًا من القبيلة يتمتع بصوت قوي قادر على ترديد الأبيات عدة مرات وبكاريزما أدائية.
والندّيب كالشاعر الذي يحتاج إلى الدعم من الرجال من حوله، ليشعل حسّ الشجاعة والإثارة، وهو يرفع يده وينقل كلمات التقدير للقبيلة أو يعبّر عن اعتزازه بقبيلته، وتكون الندبة منظمة بطريقة موسيقية مسلية، حيث يكرر الندّيب النداء ثلاث مرات، مع استراحة لمدة دقيقتين بينهما، فعند آل شحوح يبدأ النديب بترديد كلمة «يا شحوح»، أمّا عند «الظهور» فيبدأ النديب بترديد كلمة يا «ظهر»، وهذا يستدعي اجتماع القبيلة للإشارة إلى أنّ هناك شيئاً ما يحدث، ويتجمع الرجال المحيطون ويستجيبون للنداء ويرددون «هو.. هوا»، عدة مرات، كصدىً موجه للنديب.
أمّا «الرواح»، فهو تقليد موسيقي للمنطقة الشمالية في الإمارات العربية المتحدة وفي محافظة مسندم بسلطنة عُمان، ويقدم لغاية الترفيه، حيث يتألف من أربعة أجزاء يتم تنفيذ كل منها في جزء معين من النهار أو الليل، وهو ما قد يعكس التأثير الهندي على هذا الفن.
ويشير الباحث إلى مصادر تقسّم «الرواح» إلى: «سارح» في الصباح، و«الصدير» في منتصف النهار، و«الرواح» فيما بعد الظهر، و«ساري» في المساء، حيث يؤديه الرجال واقفين بصف واحد مع طبولهم يتحركون للأمام والخلف مع ثلاثة أو أربعة طبّالين في كل مرة، ويعتمد تصميم الرقصات على تنظيم الرجال وهم يدورون في دائرة أو يصطفون في صف واحد، ويتحركون جيئةً وذهاباً بشكل إيقاعي، وبالنسبة للنساء، فعادةً ما يتم تأدية الرواح أثناء الجلوس في صف أو دائرة، وتكرار أبيات شعرية مختلفة عن التي يرددها الرجال، مع تحريك شعرهنّ إلى الأمام والخلف، وكما الندبة، يؤدى الرواح في الأعراس والاحتفالات الوطنية وعند استقبال الحكام والضيوف.
كما أنّ «رزيف» الشحوح يسمى أيضاً بـ«الحربية»، وكان في الماضي يتميز بصفين من الرجال يؤدون حركات متكررة باستخدام أعواد الخيزران، ويقفون أمام بعضهم بعضاً، بينما يقف شاعر في المنتصف يلقي الشعر لكل صف، ويكرر الرجال في الأبيات الشعرية الواحد تلو الآخر، عدة جولات، وعادةً ما ترتبط الأبيات بمناسبة أداء الرزيف، ويتبع قارئ الطبول إيقاع الأبيات، وقد تم إدخال الطبول في وقت لاحق من ثمانينيات القرن الماضي، في حين تم إدخال آلات أخرى، مثل العود والأورغ والآلات الأكثر حداثةً في التسعينيات، ومن خلال دمج الرقص مع الموسيقى والشعر، يتم أيضًا تقديم التقليد الأدائي لـ«اليولا» أو رقصة السلاح مع الرزيف، ويتم أداء الرزيف في الأعراس والاحتفالات الوطنية واستقبال الحكام والضيوف.
تحفيز الإبداع
ويشير الباحث إلى تنفيذ المشروع في مراحله الثلاث كعمل ميداني وتسجيلات سمعية وبصرية وتحليل للتسجيلات، وفي تحليله للتسجيلات التي تم ترجمتها بوساطة مريم الشحي، يقول إنّها قدمت منظوراً شاعريّاً إضافيّاً لهذا التقرير الميداني، حيث تم فهم جوانب مهمة لكيفية عكس الأشكال الموسيقية للرابطة القوية بين الشحوح كمجتمع وترابطهم الاجتماعي الذي يتم تأكيده، ويتجلى في «الندبة»، و«الرزيف»، و«الرواح»، و«المهوبي».
ويؤكد الباحث أنّ طبيعة النداء والاستجابة للنداء والرزيف، تسلّط الضوء على الطبيعة التعاونية والتضامنية لهذه الموسيقى، أمّا «الرواح»، فهي رقصة لا تمثل فقط أخلاقيات الشحوح، وإنما تصور يومّا كاملاً من العمل، كما أنّ «المهوبي» هو بمثابة أهزوجة عمل يتم ترديدها أثناء طحن القمح، وتتغير كلماتها خلال النهار.
ويلفت الباحث إلى مهرجان عامل، وجمعيّة متخصصة، مثل مهرجان «فن رأس الخيمة»، الذي يزداد نموّ شعبيته ويجذب حشوداً أكبر كلّ عام.
كما يدعو الباحث إلى تحفيز الإبداع الفني المعاصر حول هذه التقاليد لجعلها أكثر اندماجاً في الحياة المعاصرة لدولة الإمارات، مؤكدًا دور ورشات العمل والبحث الميداني والمبادرات في فهم وكيفية أداء هذه الفنون.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©