محمد عبدالسميع
علينا أولاً، ونحن نقرأ الدور الجوهري لدولة الإمارات العربية المتحدة في موضوع التسامح الإنساني وأثره الحضاري، أن نفهم ونقف على فلسفة التنوع والتسامح الذي غدا أنموذجاً إماراتياً مهماً، وإجراءً عملياً قابلاً للتطبيق في أيّ بلد، استناداً إلى النجاح الإماراتي في هذا المجال، وعلينا أن ندرك أنّ التسامح، وفقاً للفلسفة الإماراتيّة هو موضوع يزيد من الطاقات الإنتاجيّة، ويضع جميع من هم على أرض الدولة وسكّانها ورعاياها في وضع رائع، تتحرّك فيه هذه الطاقات، وتعمل بكامل دافعيّتها وانتمائها ومسؤوليّتها، وقد لمس كلّ من زار الإمارات هذا الأمر، ووقف على هذه المشاركة المسؤولة تحت ظلّ الهوية الوطنيّة الجامعة التي تضع من القوانين والتشريعات ما هو كفيلٌ بتحقيق كلّ ذلك.
من جهة مقابلة، فإنّ الإقصاء، كأمر تاريخي، ومن منظور فلسفي، هو خلخلة في عنصر المشاركة، وهو الوجه السلبي في تعطيل الطاقات والمشاركة، وإغلاق نوافذ الحريّة والتعبير. وفي الإمارات، التي ترسّخت اسماً عربياً وعالمياً مهماً في إطلاق التشاركيّة والعمل والأمل، فإنّ حقوقاً دينية ومعتقدات وهوية للعناصر التي تدخل ضمن مسؤولية الدولة وفي إطارها، تكرّست في الدولة، بفضل رؤية القيادة الرشيدة في ترسيخ القانون والعدالة، وتأكيد مفهوم الشخصية الوطنية الواثقة، ولذلك فكلّ ما يندرج في هذا المجال يغدو فعلاً حقيقياً ثابتاً على الأرض يؤتي أُكُلَهُ عبر الأجيال، ويجعل من الإنسان الإماراتيّ قُدوةً لمحيطه الخليجيّ والعربي، والعالميّ، وينعكس على صفاته وسماته الروحية والإنسانية وتعاطيه مع الآخرين.
فحينما تفتح الإمارات ذراعيها، وتحتضن كلّ هذه الأطياف السكانيّة والمعتقدات والرؤى والأفكار، وتمنح الآخرين حريّتهم في ممارسة شعائرهم الدينية ومعتقداتهم المسؤولة التي لا تضرّ بأحد، أو تدعو إلى نبذ المعتقدات والحقوق والشعائر الأخرى، فإنّ هذه الأطياف السكّانيّة والألوان الثقافيّة بتراثها وأعراقها ستكون أكثر انتماءً ومسؤوليّة في دولة راعيةً لكلّ فكر خلّاق، ولكلّ إنسانية تعبّر عن ذاتها بكلّ ثقة واطمئنان. ومن يتصفّح هذا الملفّ في دولة الإمارات يجد أنّه ليس ملفاً نظرياً فقط، وإنما هو ملفٌّ مصحوبٌ ومدعوم بعدد واعٍ ومسؤول من الإجراءات الواثقة والقابلة لأن تبني الدول الأخرى عليها، فتحذو حذو دولة الإمارات وتقتدي بها في هذا المجال. وقد رأينا كيف كان العرب والعالم ينظرون إلى «وزارة التسامح والتعايش»، وما سار ضمنها من إجراءات وتشريعات، نظرة الإعجاب واحترام الأفكار الناضجة والمتمثّلة في وزارة ريادية مهمّة وضرورية وحيويّة ترسّخ قيم التسامح المشترك في فلسفتها كوزارة، وأيضاً تعمل على جانب التوعية في مواجهة التطرف الديني.
أوجه التعبير الثقافي
سنقرأ في هذه السطور أهمّ هذه الإجراءات، وعلاقتها بأوجه التعبير الثقافي والديني والهويات الفرعيّة المنتمية لدولة الإمارات، باعتبارها تمارس أوجه هذا التعبير بكلّ أنواعه وأشكاله على أرض الإمارات. إنّ التعبير الإنساني عن الفكر، والفلكلور، وكذلك التعبير الإنساني عن الحريات الدينية والأديان...، كلّ ذلك ينسجم مع الثقافة الشاملة للدولة التي تحترم هذا التنوع والاختلاف، وهي على أيّ حال ليست أفكاراً مفاجئة على دولة بنيت منذ تأسيسها عام 1971 على رؤية قيادتها باحترام وجود أماكن لدور العبادة واحترام إحساس الإنسان وهو يمارس ديانته، حيث تلتقي الثقافات والجنسيات على أرض الإمارات، وهي الدولة التي تستقطب اليوم الجميع، وغدت وجهةً للسياحة والعمل والدراسة والبعثات التعليمية، فكان تعاملها مع كلّ هذه الجنسيات تعاملاً ذكياً وطبيعياً تُشكر عليه، حين تسمح لهذا المزيج الإنساني من جنسيات متنوعة بالتعبير عن نوازعها الإنسانية البعيدة عن التطرف أو التعصب، والبعيدة عن نبذ الآخر وإقصائه.
ويشير الأرشيف الإماراتيّ في هذا المجال، إلى أنّ في الإمارات أكثر من 50 كنيسة، وأن هناك معبدين هندوسيين ومعبداً للسيخ ومعبداً لأتباع الديانة البوذية، بطريقة جميلة تنعكس على ثقافات الناس واهتمامهم وأساليب حياتهم وعملهم جميعاً في مجتمع الدولة المتنوّع، بما ينعكس بالخير على الجميع في نهاية المطاف.
وحفاظاً على هذا التنوّع بحيويّته ورونقه الجميل، فقد كانت رؤية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيّب الله ثراه»، قائمةً على ما هو موجود أصلاً، في رؤية ذكيّة وإنسانيّة وواثقة واستشرافيّة، في أن يعيش الجميع بهدوء ومحبة وسلام، ويأمن الإنسان على معتقده الديني ونزعته الإنسانية. ولقد كانت مبادرة الإمارات في هذا الموضوع تعطي حافزاً لبقية الدول المهتمة، لأن تدخل مجال التنافس فتحقق أعلى مؤشراته.
مكافحة التمييز والكراهية
من كل ما سبق، فإنّ دولة الإمارات العربيّة المتحدة هي دولة منفتحة على الجميع، فوجود أكثر من 200 جنسية أمر يؤكّد ذلك، ويمدّنا الأرشيف الرائع في هذا المجال بما يؤكّد الاعتزاز بالدولة، التي أوجدت أصلاً عام 2015 قانون مكافحة التمييز والكراهية، كوعيٍ منها لخطر التمييز ضد الأفراد أو الجماعات على أساس الدين أو الطائفة أو المذهب أو العرق أو اللون، في ظلّ وجود قانون تطبّقه يدعم ذلك. وفي سنة 2016 كان في الإمارات، ولأوّل مرّة، وزير دولة للتسامح، كجذور لوزارة التسامح والتعايش سنة 2020.
وتنطلق دولة الإمارات العربية المتحدة من أنّ دين الإسلام هو الدين الحنيف والوسطي الخالي من أيّ تشويشات فكرية أو أجندات مقحمة عليه، للإساءة للآخرين والأديان والثقافات،.. ويصدر هذا الفهم عن إيمان حضاري وواعٍ لتلاقي البشريّة وتكامل الثقافات في إطار من التنوّع الجميل، حيث هوية الدولة هي الضامن لكلّ هذا الوجود الإنساني الرائع في كلّ مجالات الحياة.
كما أنّها رؤية لا تدع أيّ عنصر تراثي أو ديني أو ثقافي أو لغوي يتقهقر بعيداً ويشعر بغربته أمام الآخرين، فيذهب إلى الانسحاب من المشهد، ولذلك فقد احتفلت الدولة عام 2019 بتسميته عام التسامح في دولة الإمارات. وإضافةً إلى ذلك، فقد ذهبت الدولة إلى التعبير عن قيمة التسامح بأدوات مختلفة كجزء من التوعية وترسيخ المفهوم لدى المجتمع، كما في تسمية جسر التسامح سنة 2017، وهو مظهر حضاري في احترام الضيوف وإشعارهم بالأمان والاطمئنان.
شواهد ومبادرات
ومن الشواهد الجميلة أن يتسمّى أحد المساجد في الإمارات باسم «مسجد مريم أم عيسى»، وهذا ما كان له أطيب الأثر لدى الجانب المسيحي، والذي هو كما نعلم جزء أساسي وأصيل من الفكر العربيّ والحضارة العربيّة. ولقد استقبلت دولة الإمارات العربية المتحدة تلك الزيارة التاريخية التي قام بها قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين، وهو ما يؤكد احترام الآخرين لدور الإمارات وإيمانهم بمسعاها الحضاريّ والإنساني، نحو التقاء الثقافات والأديان لخير البشريّة جمعاء.
وحتى فترة قريبة، وقّعت وزارة التسامح والتعايش في مؤتمر «كوب 28»، الذي حضره زعماء وقادة منظمات دوليّة ناشطة وباحثون، مذكرة تفاهم لتفعيل قيم التسامح والتعايش والأخوّة الإنسانية، ضمن أنشطة المؤتمر. أمّا مبادرة التسامح التي دشنها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، فهي مبادرة ذات حضور إنساني وثقافي وإعلامي، في تكريم سموّه لرموز التسامح العالمي في مجالات الفكر الإنساني والإبداع الأدبي والفنون الجمالية، وهي مبادرة تؤسس لجائزة محمد بن راشد للتسامح لبناء قيادات وكوادر عربية شابة في مجال التسامح ودعم الإنتاجات الفكرية والثقافية والإعلامية المتعلقة بترسيخ قيم التسامح والانفتاح. كما أنّ وجود المعهد الدولي للتسامح، الذي أعلن عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، هو معهد استراتيجي للدراسة، وتقديم المشورة للبحوث وللخبرات، فالإمارات لا تقوم بهذا الجانب فقط في احتفاليّة بروتوكوليّة أو نظريّة، وإنّما قامت بتأسيس ما هو عملي ويدوم أثره الإيجابي اليوم وغداً وفي المستقبل لتوعية الأجيال والمجتمعات، فلقد كانت الإمارات والتسامح، كما قال صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، هما وجهان لمعنى جميل وواحد وعمل مؤسسي مستدام.
ولقد حققت الإمارات تقدُّماً قوياً على المستويين الإقليمي والعالمي في مجال التعايش السلمي، فحصلت على المركز الأول إقليمياً، والثالث عالمياً في مؤشر التسامح المدرج، ضمن منهجية التقرير السنوي العالمي لعام 2016 والصادر عن معهد التنمية الإدارية في سويسرا، إذا ما علمنا أنّ الدولة أسست مركز «الموطأ» عام 2016 للنهوض بمهمة تجديد الخطاب الإسلامي، والارتقاء بالشخصية العربية والإسلامية، وتصحيح المفاهيم والمصطلحات. ..وهكذا تضرب دولة الإمارات العربيّة المتحدة المثال تلو المثال في رؤيتها الواعية لإمكانية التقاء البشر، بعيداً عن التخندق وراء الأجندات الإقصائيّة، أو التعصب الأعمى، ونبذ الآخرين.
الغاف.. الرمز والمعنى
يحمل اختيار شجرة الغاف سنة 2019 رمزاً لعام التسامح في دولة الإمارات، الكثير من الدلالات العميقة، وذلك لأنها «رمز تاريخي وثقافي للاستقرار والسلام في بيئة الإمارات الصحراوية». وشجرة الغاف، واسمها العلمي Prosopis cineraria، تنمو في غرب آسيا، شبه الجزيرة العربية، وشبه القارة الهندية، وتشير «هيئة البيئة - أبوظبي» على موقعها الرسمي إلى أن «الغاف.. شجرة تتحمل الجفاف، ويمكن أن تظل خضراء حتى في البيئات الصحراوية القاسية. وهي من الأشجار المهمة للأنواع الحيوانية والنباتية على حد سواء. وتعتبر شجرة الغاف الشجرة الوطنية لدولة الإمارات العربية المتحدة، ومن الرموز الثقافية، إذ تمتلك قدرة عجيبة على التأقلم المثالي مع البيئة الصحراوية القاحلة..».