الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

التسامح.. من المديح  إلى التمكين

التسامح.. من المديح  إلى التمكين
8 سبتمبر 2024 01:29

د. عزالدّين عناية

شهدت مقولة التسامح جملة من التطورات، منذ تداول المفهوم في الأوساط الدينية والسياسية والمعرفية في أوروبا، مع مستهلّ الحقبة الحديثة. وبدا ترسيخ المفهوم حينها، في أوضاع مشحونة بالنزاعات والانقسامات، سبيلاً للخروج من دوّامة الفوضى التي ألمّت بالقارة مع بروز الانشقاقات البنيوية الكبرى في التفكير والتصورات، جرّاء الموقف من الحداثة والعلمنة، وجرّاء ما طرأ على مفهوم الدولة من تبدّل، وما صاحبه من هجران لمفهوم الرعية وانفتاح على مفهوم المواطَنة.
بدا التسامح المنطوي على دلالات مغرية، مثل العفو، والتساهل، والاحترام، والكرامة، والقبول بالمغايرة وغيرها، سفينة النجاة للخروج من أوضاع الضيق والانغلاق والمركزية. وتجلى ذلك «في مديح التسامح» وفي رسائل «الحثّ على التسامح» التي دبجها كثير من الرواد في المجال، أمثال جون لوك، وباروخ سبينوزا، وفولتار وآخرين، ولكنّ ذلك الطور التأسيسي المثقل بالمخاوف والوعود، كان في واقع الأمر التمهيدَ الرخو الذي سار باتجاه التوليد النظري للمفهوم ثانية.
فمع الطور الثاني لمفهوم التسامح وقد خرج فيه من الحيز الغربي، والأوروبي تحديداً، إلى مجال عانقَ فيه العالمية والكونية، هو ما طبع صلة مفهوم التسامح بعالمنا مع القرن الفائت، وما خلّفه من تشبّث جملة من المعنيين بشؤون الأديان والحضارات باستعادة وعود المفهوم المغرية. بدا التسامح لغة جديدة، وسبيلاً للتواصل بين علماء ورجال دين في تقاليد إيمانية عدّة، في زمن تقارب فيه أتباع الأديان، وتسارعت فيه المطالب بصياغة لغة جديدة، تتقلّص منها عبارات الهيمنة والأفضلية لمعتقد بعينه، ليعلوَ بدلها التطلّع إلى نحت «إيتيقا» مغايرة تهدف إلى إرساء التأسيسات اللازمة لإشاعة وئام جامع. تميّزَ الحديث عن التسامح، في هذا الطور الثاني، بالتعويل على تجديد الخطاب، من خلال البحث عن حيز للآخر في رحابة اللاهوت الذاتي، وفي التمثلات الثقافية بعيداً عن الانغلاق. صيغت مراجعات مهمّة في تشريعات الأديان الكبرى، لاحت آثارها في انفتاح القائمين على الأديان الإبراهيمية، على بعضهم البعض، بشكل لم نعهده. بدا ذلك جلياً في مقرّرات مجمع الفاتيكان الثاني (1962/1965) في الكنيسة الكاثوليكية، وما تمخّض عنه من طروحات مستجدّة كان لها وقع على الأديان الأخرى.
استيعاب الآخر 
والواقع أن رجال الدين والفقهاء والعلماء في شتى التقاليد الدينية، لم يدّخروا جهداً في هذا السياق. خاضوا في مسائل على صلة باستيعاب الآخر، مواكَبةً للتحولات في العالم، مع شيوع مبادئ حقوق الإنسان، وترسّخ فكرة المواطَنة، وتداخل الجغرافيات الدينية. وبالمثل اشتغل كثير من المفكرين على مراجَعات وانتقادات لطروحات الانغلاق المتراكمة عبر قرون، بغرض التأسيس لوئام جماعي ووفاق إيماني، يخرج بمقتضاه التصوّر الديني من ضيق المركزية العقدية إلى رحابة التشاركية الإيمانية، بما يفسح المجال للآخر بالحضور والإسهام في النسيج المجتمعي. الأمر تطلّبَ مراجَعات فقهية ولاهوتية هائلة: برز في المسيحية الاشتغال على «لاهوت الأديان» وعلى مفهوم «الحرية الدينية» من الأمور اللازمة لمواكبة العصر، ولإيجاد لغة تقطع مع الانغلاق الذي تلخّص في المقولة القروسطية «لا خلاص خارج الكنيسة». وفي الجانب الإسلامي بدا الاشتغال على البحث عن «كلمة سواء»، عبر مراجعات طالت مفاهيم مترسّخة مثل أهل الذمّة وأهل الكتاب وضوابط فقهية متقادمة. ولاح الاشتغال هدفاً منشوداً للحفاظ على سلامة المجتمعات، ولإيجاد لغة تخاطُب وتواصُل مع العالم. لم تكن اليهودية، بعيدة عن هذا التمشي، وجرت مراجعات مهمّة لمفهوم اليهودي، ومفهوم الغويم، ترافقاً بالبحث عن نصب خيمة إبراهيم مجدداً في مفترق الطرقات لاحتضان الجميع. وقد تطلّب الأمر جرأة عالية من العقل الديني: اللاهوتي/ الفقهي/ الحبري، الذي عانى من تراكمات هائلة، بحثاً عن تعامل سويّ في عالم ديني جديد. والملاحظ بشأن خطاب التسامح في هذا الطور، في الأديان الثلاثة، أنّ التراث الصوفي، قد مثّل عنصراً لافتاً في إبراز قدرة الأديان على التسامح، وعلى الخروج من البراديغمات المنغلقة، أعاد للذات المؤمنة رحابتها وثقتها واحتفاءها برأسمالها القيَمي. 
مسار التحول 
والمتابع لجينيالوجيا التسامح يلحظ أنّ المفهوم متحوّل وغير مستقرّ على حال، وهو بصدد ولوج طور جديد يضعنا فيه مسار التحول أمام مطلب جوهري يتمثّل في الإجابة عن سؤال: كيف نسكن العالم؟ فاللافت أن مفهوم التسامح قد اشتكى مع أواخر الألفية الثانية من بلوى التفسّخ، وهو داء متربّص يصيب المفاهيم بالابتذال والخواء، أو ما يشبه الشيخوخة، والأمر عائد بالأساس إلى حالة الجمود وغياب تطوير الدلالات، وعدم الانتقال بالمفاهيم من طور خُلقي إلى طور عملي، ومن مستوى عاطفي إلى مستوى مؤسّساتي. فحين يجتاز المفهوم اختبار الولادة الثانية، يثبت حينها جدارته وديمومته، وهو المصير نفسه الذي عرفته مفاهيم كبرى رافقت البشرية في رحلتها، مثل الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان. وما كان لتلك المفاهيم وغيرها أن يُكتب لها الاستمرار، لولا تلك التحولات والمراجعات والقطائع التي شهدتها.
وفي مسيرة تحول مفهوم التسامح، جرى البحث عن بدائل، طوراً في التفاهم، وتارة في التضايف، وأخرى في التعايش، وهو بحث قلق ومشروع، ولكن الملاحظ أن التسامح ظلّ البؤرة الدلالية الأم التي يستند إليها السلم والأمن والأخوّة والحوار. والطور الحالي الذي نعيشه يُلزم بالخروج من «مديح التسامح» إلى «تمكين التسامح»، والبحث عن تنزيل مضامينه ضمن سياقات معرفية وإجراءات عملية. فأمام التقارب الهائل بين البشر، من شتى المعتقدات والثقافات، باتت جملة من التساؤلات ذات الصبغة العاطفية، في السابق، مدعوة للتحول نحو صبغة إجرائية. ولذلك أضحى طورُنا الحالي في فهم التسامح معنياً أكثر بالتحول من التسامح الخُلقي إلى التسامح العملي.
من هذا الاضطرار العقلي أو الحاجة العقلية، كما يبيّن كانط، يلوح التسامح في ظرفنا التاريخي الحالي مقبلاً على تبدلات بحجم التحديات الكبرى، تسير صوب التمكين العملي.
زمن التعددية 
مع التغيرات التي شهدها عالمنا منذ مطلع الألفية الثالثة، من ثورة الاتصالات الخارقة إلى موجات الهجرة العارمة، بدا موضوع التعدّدية محفّزاً للأديان للتشبّث بمقولة التسامح وترسيخ أبعادها في المعيش اليومي وفي السلوك العملي. واللافت أنّ زمن التعدّدية الذي نعيشه يُلزم بإعطاء دلالات حقيقية لمفاهيم كانت في ما مضى نظرية أو ضبابية، أو مشحونة بدلالات خُلقية مفتقرة إلى بُعد عملي.
لماذا باتت الحاجة ملحّة إلى التسامح العملي في الزمن المعولم؟ نلحظ في غياب التسامح المؤثّر في نسيج المجتمعات أن جموعاً واسعة تجد نفسها أمام وحش التشدّد، ودوّامة العنف، وانخرام القِيم، وهي مهالك تتربّص بمنجزات قيّمة تحقّقت في مجال التقارب بين البشر. لذا يلوح التسامح العملي بمثابة القدرة التنفيذية لتفادي مغبة التراجع عمّا تحقق للبشرية من إنجازات على مستوى كوني. والمتمعّن في تطوّر مفهوم التسامح يلحظ أن تشبّث البشرية بالتسامح وإصرارها عليه يأتي كلاهما جراء إدراك تلك الحاجة عقلياً. فكما يقول كانط في ذلك المقطع الشهير في رسالة «السلام الدائم» حتى الشياطين، أو الأفراد الأنانيون للغاية، يحتاجون إلى الدولة، بشرط أن يكونوا عقلانيين، وعلى المستوى الدولي يحتاجون إلى جمهورية عالمية. يحتاجون إلى الدولة، بمعنى تقبل الجموع بنظام يرعى سير العلاقة بينهم، وهو أمر نابع من حاجة اضطرارية لأداة تنظّم سير العلاقة بين الجميع، لأن في انتفاء تلك الأداة يتهدّد كيان الجميع، وبالتالي ضرورة تقليص الجميع من رصيد الأنانية والتفكير بمنظور جمعي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©