نحن بأمسّ الحاجة إلى تعليم الطلبة والناشئة أدوات وثقافة الإقناع بالتوازي مع تعليمهم أدبيات الحوار ومهارات التواصل مع الآخرين، وذلك عبر تدريبهم أولاً على استيعاب توجّهات مستمعي خطابهم، ثم نوع الحجة التي يقدمونها، بالإضافة إلى التبصّر بما يقوله المنطق الذي لا يملكه أحد، فالمنطق بطبيعته سياج إنساني أشمل لا يمكن لأحد ادّعاء امتلاكه، ومع اندياح وسائط التواصل الرقمي اليوم بِتنا أمام خطاباتٍ مرئية ومكتوبة لا تقوم على اعتبار المستمعين أو القارئين، فبعضها راح يقدم خطاباتٍ جوفاء وأحاديثَ تخلو من المضمون الواضح، هذا فضلاً عن التدنّي الواضح في مستوى المهارة اللّغوية نحواً وصرفاً، فكيف إذن يصبح كلامُنا مقنعاً للآخرين ما لم يَقم على بناءٍ لغوي سليم ثم بِناء مسلّحٍ بالحجّة والبرهان؟ فالبيان القرآني المعجز تجلّى بقدرته على النّفاذ إلى قلوب المستمعين قبل آذانهم، فأدركهم بالخشوع ثم بالتوافق والإذعان، واليوم يحرص صانِعو المحتوى وفق التقنيات الإلكترونية الحديثة على رصد أثرِ حديثهم من خلال معرفة عدد المتفاعلين معه، والذين قد يُبدون إعجابَهم بضغطة زرّ، أو بمشاركة المنشورات والتعليق عليها، وهذا لا يتأتّى بسهولة كما أظهرنا.
لقد وضع أرسطو أُسسَ الخطاب الحجاجي في كتابه «فن الخطابة»، وهو كتابٌ أسّس مبكراً للكيفية التي تجعل الخطاب مؤثراً ومقنعاً، من خلال حججٍ تأخذ بعين الاعتبار مرجعية متلقِي الخطاب والحجج التي يمكن أن تُصنع له، فقد مايز أرسطو بين حججٍ جاهزة يمكن مثلاً اقتباسها من أقوال الحُكماء والزعماء ومن مواقفهم ثم تقديمها للمتلقي، وبين حجج غير جاهزة يتم بناؤها عقلياً وفق مقتضيات سياق الحديث، فلكي لا يكون حديثنا منفصلاً عن الواقع صنع أرسطو الحجج من بنية الواقع القائم ومن المنطق ذاته، لكنها كما ذكرت تقف على لبنة أساسية وهي سلامة لغة المتحدّث، فالحجاج ليس جدلاً عقيماً، بل هو خطابٌ يهدف إلى التّضامن مع الآخرين بغية كَسب تأييدهم، حيث أصل الحجاج القضاء، لكننا نُمارسه كل يوم، سواء مع الكبار أم الصغار، نمارسه يومياً في كل حديث مع الآخرين ولو كان ذلك في سبيل إقناع الأهل أو الأصدقاء بزيارة مكان دون آخر، ليبقى أمر رصد استجابة الآخر وتقبّله مرهوناً بطريقة الانفعال التي تصدر عن المستمع، تماماً كما يحدث عند تصفيق الجمهور للخطيب أو للمغني على المسرح، وبالإضافة إلى السّلامة اللّغوية، اشترط أرسطو على الخطيب (المرسِل) تمتعه بالخُلق الحَسن وإظهار التّأدب والتخلّق، فالحجاج استراتيجية تمثل أحد أنواع القوّة الناعمة، فلا يكفي الخطيب عند محاولته إقناع الآخرين تقديم ما يحفظه أو ما يعتَقِده للمستمعين وحسب. لقد درّبت طلبتي قبل مدّة على فنّ المناظرة، ولاحظت حينها أن المواضيع الإنسانية جدليّة بطبعها، لا يحل عقدتها إلا المتحدث الذي يملك لساناً سليماً وعقلاً يقظاً وقدرة على استيعاب الآخر دون غضب أو رفض، وهو ما يعني بناءَ مجتمعٍ يقبلُ الاختلافَ، ويصون قيمَ التّقبل والاحترام والتّسامح.
أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية