نوف الموسى (البندقية)
«هو ينظرُ في عيون الأشياء، تكادُ لا تلين، ولا شيء فيها يتحدث، فيقرر المسير، رحلة العودة إلى البيت، أو كما يسميها الشعراء الإياب المترف، فيها نسألُ ذواتنا عن المقصد من أن يتأمل الإنسانُ طريقه، وهل هناك معنى في الوجود جله، بعد الوصول إلى الغاية والمسكن؟ وما هو السَّكنُ في الظلالِ؟ ولماذا علينا أن ندرك همس الأبجديات ونتريث، مثلما يصبرُ العابرون إلى النور؟ ها هم يقرؤون السلام وينامون في أحضان الطبيعية الواسعة، ولا يعلم أحدٌ منهم، متى يُمكن للحقيقة أن تتلاشى، ولذاكرة أن تكون حاضرة في غياهب النسيان، فنحن بينهما نتذكر الحُب والولادات العظيمة للوجود، وننسى كذلك أننا في ذات اللحظة متنا وعدنا إلى السكون».. بهذه الشاعرية المفتونة بالذاكرة تغنت أعمال الفنان الإماراتي عبدالله السعدي، ضمن مشاركته في بينالي البندقية لعام 2024، في منطقة الأرسنال - سالي دي آرمي، ممثلاً مضامين الجناح الدائم لدولة الإمارات العربية المتحدة، بتكليف من مؤسسة سلامة بنت حمدان آل نهيان المفوض الرسمي للجناح، وبدعم من وزارة الثقافة، وهناك توقفنا ملياً في حوار «الاتحاد» مع الفنان عبدالله السعدي، عبر رحلات المسير في المناطق المحلية، ولما لروح الأبجدية من رموز لا يفكُ أحدٌ أمرَها، حيث تأتي إجابات السعدي على خطى المفكرين الأوائل قائلاً: «عليكم بالصبر، فالوجود الإنساني، لطالما كان يحمل مهمة سامية في أن يفك الرموز. في أعمالي تنساب الطبيعة أمامي، كما هي الأمطار الساقطة من مزاريب الروح، لا أريد سوى أن يمد الباحثون عن المعنى أياديهم، ويلتمسوا الموسيقى الخفيّة في الفضاء الكوني الرحب، إنها تنادينا بأسمائنا كل يوم، فهل من مجيب؟».
إعادة اكتشاف
وسط بحيرة البندقية، جلستُ في مواجهة الفنان عبدالله السعدي، بصمت كان يتأمل تصاعد الموج، وحركة القارب الخشبي، ونحن نقبع في المقصورة الداخلية، في طريقنا إلى جلسة نقاشية لمسيرته الفنية، والاحتفاء بإطلاق كتاب «خرج ولم يعد» للفنان عبدالله السعدي، وهو إصدار مشترك بين «مؤسسة الشارقة للفنون» و«كاف بوكس»، بعد سنوات من البحث والكتابة والتوثيق، بالتوازي مع افتتاح معرضه في بينالي البندقية، ممازحةً قلت له: ربما في الرحلة المقبلة ستغامر بالقارب عبر جولة حول العالم؟ وكعادته - بروية - تفكر بالسؤال ونظر إليّ كمن يصحح الفكرة: كان الحلم أن أطوف العالم بالدراجة الهوائية، ولم يتسن لي ذلك، ما ترونه في المعرض الفني 8 رحلات كنت فيها أعيد اكتشاف مناطق محلية في دولة الإمارات، من مثل «مدحاء»، و«النحوة»، و«شيص»، و«الطيبة»، و«مسافي» و«دبا» و«الفقيت» و«شرم»، و«خورفكان»، حضرت الدراجة الهوائية فيها عبر عمل «رحلة الصوفي لعام 2019»، وكذلك جربت المشي على الأقدام في «رحلة النعال 2014-2015»، ولا يمكن أن أنسى «رحلة قمرقند» في عام 2011، التي قمت بها برفقة حماري، في الحقيقة كنت قد أسميت الحمار «قمرقند»، وبالطبع هناك رحلات بالسيارة».
كان قد أخبرنا الفنان عبدالله السعدي، كيف أن «كتابة اليوميات»، سبقت فعل الرحلات الاستكشافية، وأنها في جوهرها حالة استثنائية أيقظت حواسه بتجاه التفكير في ابتكار أبجديته الخاصة البارزة في أعماله الفنية، والحاضرة في معرض عبدالله السعدي: «أماكن للذاكرة.. أماكن للنسيان» في بينالي البندقية، ومنها سألتُه مجدداً: ماذا يعني أن تحول كتابة اليوميات مثل «ابتدأت أرسم من جديد وأنا على الدراجة خطوطاً بقلم الرصاص لتتحول عند تلوينها إلى خريطة» من الدفاتر العادية إلى «الكانفس»، وتكتنزها في علب الحلوى المعدنية، وتجرد خرائط الجغرافيا الاعتيادية لتمثل مسيرات روحية عبر الجبال في دولة الإمارات، وهل هي بمثابة تفسير لحالة الانتقال من الفضاء العام إلى الأستوديو لإنتاج الأعمال الفنية؟
يُحرك الفنان عبدالله السعدي، خاتماً معدنياً في يديه اليمنى، يبرز منه حجرٌ كريم، أراه يُلاحظ المارين من زوار المعرض الفني في جناح دولة الإمارات، حيث نجلس هذه المرة، على المقاعد الخشبية الخارجية، كمن يشاهد عرضاً ارتجالياً لفن أدائي جماهيري، لينظر إليّ مباشرةً ويقول: قبل أن أجيب عن السؤال، أود أن أشارككِ شعوري إزاء ارتحال أعمالي إلى البندقية، مثلما هو ارتحالي الدائم هناك في الإمارات، حالة من السفر المستمر، لدرجة أنني كنت لا أفكر بتأسيس عائلة، أو العمل في وظيفة حكومية، بالطبع أحمد الله على وجود أطفالي اليوم، ولكن هاجس الارتحال هذا لطالما سكنني بقوة، وبذلك تشكلت لدي حياتان، أو ربما ذاكرتان، بين روتينية الحياة اليومية بتفاصيلها العابرة والمحدودة والقابلة للتلاشي والانتهاء، وبين الذاكرة الممتدة التي بطبيعتها تتجاوز الذاكرة، وهنا تكمن قيمة الذاكرة لدى الفنان عنه لدى الإنسان العادي، فالأخير تنتهي لديه ذاكرته في حدود معينة، أما ذاكرة الفنان فتبقى لا نهائية عبر أعماله الفنية.
ويضيف: بالنسبة لموضوع كتابة اليوميات فهي انطلقت من مرحلة الابتدائية، لكم أن تتخيلوا مشهد معلم المدرسة وهو يخبرنا بعفوية لماذا لا تكتبون يومياتكم، ومن هذه الجملة ربما وصلت إلى هنا. شرعت بكتابة بدائية عامة، من مثل «ذهبت اليوم إلى السوبر ماركت»، إلى أن وصلت للحديث عن أفكاري ورؤاي وأحلامي، وفي كل مرة أؤكد على هذا البعد أنه في الكتابة ستذهب إلى أماكن لم تكن تعلم أنك ستصل إليها، وهنا تحدث الدهشة. استمررت في تدوين اليوميات بالدفاتر حتى عام 2015، وظهر بعدها مشروع تحويل مسيرة التدوينات عبر رسم خرائط الرحلات لأضعها في علب معدنية دائرية ومستطيلة ومربعة، مروراً بـ «الكانفس»، وتحديداً المناظر الطولية، التي تهديني حالة لا نهائية للمشهد، فمثلاً أمشي في طريق مفتوح، وأرسم ما أراه وأحياناً أضيف أشياء من الذاكرة، ومن هنا فإني أوضح كيف أن الخريطة التي أرسمها تعطيني بعداً يتجاوز الذاكرة نفسها».
على دراجة هوائية
في رحلة «الجرامافون على دراجة هوائية لعام 2023»، والتي أنجزها الفنان عبدالله السعدي خصيصاً لمعرض بينالي البندقية، حمل معه آلة الجرامافون، وأسطوانات أغانٍ قديمة، حيث قام الفنان بابتكار هيكل معدني لحفظ لفائف أقمشة الرسم داخله، لا يُمكن مشاهدة اللفائف كاملة مرة واحدة، بل لابد من لفها باليد على بكرات بطريقة ميكانيكية، لتتكشف اللفافة على نحو تدريجي، حيث يحتوي العمل الفني على 20 قطعة من لفائف أقمشة الرسم داخل هياكل معدنية، وعليها رسومات لخرائط طريق الرحلة، وقد أعاد القيّم الفني للمعرض طارق أبوالفتوح فكرة حركة اللفائف في القدرة البديعة على تحقيق التلاشي والنسيان والتذكر والتكشف للذاكرة.
رواية قصص السعدي
في بينالي البندقية، ضمن معرض عبدالله السعدي: أماكن للذاكرة.. أماكن للنسيان، تولى مجموعة من الشباب الإماراتيين المتخصصين في مجال المسرح والفن برواية القصص الخاصة بأعمال الفنان عبدالله السعدي، وأبرزها أنه كان يصطحب معه عوالم متداخلة تعبر عن طبيعة الرحلة نفسها، على سبيل المثال، في رحلة «الخرير والحرير» لعامي 2015-2016، والتي تتمحور حول تاريخ الشاي وصناعة الخبز، حمل السعدي معه، كتاباً عن طريق الحرير التاريخي، ولمعرفة تفاصيل جمالية أكثر حول الموضوع، توقفت بجانب أعمال طريق الخرير والحرير في المعرض الفني، واستأذنت الفنان عبدالله السعدي أن يقرأ لنا قصيدة يكتبها، لا يُعرف الفنان نفسه كشاعر، ولكنه يذهب للشعر في محاولة لإيصال ما لا يمكن التعبير عنه أحياناً في الأشكال الإبداعية الأخرى، وابتسم السعدي وقتها وقال لي: لا أتذكر الصراحة، أمهلوني بعض الوقت، ربما أتذكر شيئاً من القصائد الإنجليزية، وفجأة باغته بسؤال: هل فعلاً كنت تسمع أغاني صينية، وأنت في رحلة الخرير والحرير؟ أجابني وهو يعيد ذات الابتسامة: نعم، أتذكر أن إحدى الأغاني الصينية تحدثت عن مشهدية سقوط المطرُ على أوراق الموس، وقد ألهمتني في تخيل الماء يتدحرج من خط سعف النخيل، جميعها حالة من التحفيز المستمر، فطوال رحلة الذهاب إلى رؤوس الجبال في الإمارات، سعيت لاستجلاب حالة الاتصال بمن يمكن أن يكونوا مروا من هنا، وفي اعتقادي أن الموسيقى تستطيع فعل ذلك، وربما تجعلني أتصل حسياً بشخص من الصين.
ابتكار الأبجديات
ابتكار الأبجديات في أعمال الفنان عبدالله السعدي، تمثل المستوى الأسمى في أعماله الفنية، هو فعلياً لا يكتفي بإنتاج الأبجدية، بل يؤسس منها بنية تتضمن لغة خاصة، وفي الوقت نفسه تتميز برمزية يحتفظ الفنان بمعانيها لنفسه، وفي حوارنا الصحافي مع الفنان عبدالله السعدي، وودنا إضفاء حالة من الاستنباط حول أهمية استحضار الرمزية في الأبجدية المبتكرة من الفنان عبدالله السعدي، ومنه في أعمال «رحلة الجرامافون في الحورة - 2023»، أنتج فيها الفنان رسوم لأسماء الأغاني والمغنين المستلهمة من نظام كويبو ـ أداة من الخيوط والعقد الملونة، استخدمت في حضارة الإنكا باعتبارها أبجدية للكتابة ـ هنا تحديداً فضل الفنان عبدالله السعدي أن نشاهد عن قرب الخطوط والعقد المرسومة في العمل، سارداً سبب اختياره لهذه الأداة: تلاحظون أنها أشبه بنوتة موسيقية، من بين المغنين الذين استمعت إليهم خلال الرحلة، وحولت اسمه وأغنيته إلى ما يشبه الأبجدية، هو الموسيقي العربي حضيري أبو عزيز، حيث سجلتها بالخيوط والعقد وفق نظام الكتابة باللغة العربية.
وتابع الفنان عبدالله السعدي فيما يتعلق بالخصوصية ورمزية الأبجديات: لا يمكن أن نتجاوز مسألة أن اليوميات بطبيعتها تجربة شخصية، وتحمل في كثير من الأحيان معاني خاصة لمن يكتبها، وهناك بالتأكيد من يستخدم الرموز ليخفي اسماً أو معنى أو حالة معينة، لا يود أن يعرفها أحد، بالمقابل فإن ميزة الرموز في عالم ابتكار الأبجديات فنياً، تتيح للمتلقي عيش حالة مستمرة من الصبر والتأني في التعاطي مع أعمال الفنانين، كونهم يبحثون بتجاه تفكيك تلك الرموز، أو على أقل تقدير إعادة إدراكها كمؤشر إبداعي في تجربتنا الإنسانية، يكتشف من خلالها الفنان نفسه ومحيطه الوجودي في هذا العالم الواسع.