سعد عبد الراضي (أبوظبي)
مستشرقون كثر كتبوا بموضوعية وعمق عن التاريخ والحضارة الإسلامية، ولاشك أن المستشرق الروسي فاسيلي بارتولد يعد من أبرزهم وأغزرهم إنتاجاً وأكثرهم إنصافاً، فقد ذاع صيته بكتبه المهمة ومقالاته الرصينة التي تعد بالمئات حيث ألّف 42 مصنّفاً حول الحضارة الإسلامية.
ولد المستشرق والمؤرخ الروسي فاسيلي بارتولد بمدينة سانت بطرسبرغ، وذلك في 15 نوفمبر 1869، وتوفي في 19 أغسطس 1930 في المدينة ذاتها، ويعد أحد أبرز وجوه مدرسة الاستشراق الروسية.
عاش بارتولد، الذي يعرف أيضاً باسم فيلهلم بارتولد، ذي الأصول الألمانية، حياة مرفهة وفي أجواء ميسورة دفعته لأن يواصل دراسته التي اختارها بكلية اللغات الشرقية بجامعة بطرسبرج حيث تخرج منها في عام 1891 ليتجه بعد ذلك نتيجة لشغفه للسفر إلى موطن جذوره في ألمانيا، حيث تعرف هناك إلى مستشرقين كبار كنولدكه ومولر، واتجه بعدها إلى بعض بلدان آسيا الوسطى وغيرها من بلاد الشرق بصفة عامة، ليتعرف عن قرب على تاريخ تلك البلدان. وبعد هاتين الرحلتين قرر أن يكمل دراسة الماجستير في جامعته التي تخرج منها وتمحورت دراسته حول التاريخ الإسلامي الوسيط. وكانت رحلته إلى آسيا الوسطى هي مفتاح دراسته ليواصل بعدها تألقه العلمي حتى صار أستاذاً في جامعته، وساهم بشكل كبير في المجلة العلمية المختصة في الإسلام «عالم الإسلام» التي أصبح فيما بعد رئيساً لتحريرها.
وبادر بارتولد بعد ذلك بنشر العديد من المقالات المتعلقة بالإسلام، وظل يصنّف ويؤلف منصفاً الحضارة الإسلامية وأصدر كتباً متتابعة كان من أبرزها كتابه «تاريخ الحضارة الإسلامية»، وكانت هذه الكتب من أهم الكتب المنصفة للحضارة الإسلامية لأنها لم تغفل الأبعاد الاجتماعية وتطور الحضارة الإسلامية علمياً وثقافياً وفنياً معتمداً في أطروحاته منهجاً علمياً رصيناً استند فيه على عدد من المصادر المهمة في التاريخ الإسلامي، منتقداً العديد من المستشرقين الأوروبيين الآخرين الذين ألفوا كتباً عن التاريخ الإسلامي لم يكن فيها أسلوب الإنصاف محسوساً ولا ملموساً بشكل كافٍ، معارضاً مقولة بعضهم أن أوروبا هي مركز العالم، وأن تاريخ بلاد الشرق يأتي في مرتبة لاحقة، ومن أقواله في هذا الصدد: «إن الناس هم الناس في كل مكان ليس بينهم فارق، وإن التباين بين حضارتي الشرق والغرب يمكن ردّه برمته إلى الأحوال التي وجّهت النشاط الذهني لشعوب الشرق إلى وُجُهات مغايرة».
وقد ألّف بارتولد الذي اكتسب شهرة واسعة، وترجمت أعماله إلى العديد من لغات العالم لأصالة أبحاثه، أكثر من 400 كتاب خلال رحلته العلمية الممتدة لأكثر من 42 عاماً، بالإضافة إلى عدد غير قليل من المقالات المهمة، حيث أسهم بـ274 مقالاً في الطبعة الأولى من دائرة المعارف الإسلامية التي صدرت في تسعة مجلدات باللغة الروسية، وترجم بعضها إلى العربية.
ومن أشهر مؤلفاته: تركستان عند غزو المغول لها، وتاريخ دراسة الشرق في أوروبا وروسيا، وحضارة الإسلام، وتاريخ تركستان، والعالم الإسلامي وآسيا وتركيا، ودراسة عن عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين، وتاريخ أتراك آسيا الوسطى وغيرها الكثير. ويعد كتاب «تاريخ آسيا الوسطى» من أهم أبحاثه، باعتباره مرجعاً لتاريخ منطقة آسيا الوسطى منذ القرن السابع الميلادي إلى بداية القرن الثالث عشر الميلادي، حيث استند فيه على العديد من المصادر النادرة، وتعود أهمية هذا الكتاب أيضاً إلى كونه رصد التطور التاريخي لبلدان آسيا الوسطى منذ بداية الفتح العربي وحتى الغزو المغولي.