فاطمة عطفة (أبوظبي)
يعد كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه: «شمس العرب تسطع على الغرب» من أهم الدراسات الغربية التي تناولت الإسلام بوعي ومحبة وإنصاف خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وربما كانت الوحيدة بين الباحثين في الغرب التي ركزت على أن دين الإسلام جاء للناس كافة، وأن تعاليم العدل والسماحة فيه شملت الشعوب كافة، دون أن أي تمييز عرقي أو طبقي، شرقي أو غربي. وأكدت أن «الإسلام أعظم ديانة على وجه الأرض سماحة وإنصافاً، نقولها بلا تحيُّز ودون أن نسمح للأحكام الظالمة بأن تسيء لصورته».
وتقف زيغريد هونكه بحزم ضد المغالطات التاريخية المغرضة المتحاملة على الإسلام، وتصفها بالجهل والإثم، كما تدعو بصدق ومحبة إلى: «أن نتقبل هذا الشريك والصديق مع ضمان حقه في أن يكون كما هو». ويكفي أن نتأمل في الآيات القرآنية التي تستشهد بها لندرك عمق وعيها وصفاء وجدانها ومدى محبتها وتقديرها للإسلام، ومن هذه الآيات الكريمة: «لَا إكْراهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرشْدُ مِنَ الْغَيِّ...».
ونظرة هونكه الموضوعية للدين الحنيف تركز على الجانب الروحي، وقيم التسامح والتعايش والعدل والمعاملة الأخوية بين بني الإنسان. وتوضح أن حضارة العرب والإسلام أسهمت في إبداع كثير من العلوم والفنون، سواء في الطب أو الفلك أو الرياضيات أو غير ذلك من العلوم، فضلاً عن العدالة والرحمة في معاملة أبناء البلدان التي فتحتها الجيوش الإسلامية، ولم ترغم الناس على اعتناق الإسلام بالسيف، بل بقي كثير من أتباع الأديان الأخرى على أديانهم. ودراسات هونكه لم تقتصر على الجانب الديني في الحضارة الإسلامية وإنما تناولت أيضاً موضوعات عديدة ضمن دائرة معرفية واسعة في التاريخ والفلسفة وعلم الأديان المقارن. وفي كتبها، فنّدت الافتراءات والأحكام الجائرة التي أشاعها باحثون متعصّبون ضد الإسلام، خاصة بعض ما كان متداولاً من صور نمطية عن الإسلام في بعض المجتمعات الغربية آنذاك.
وشهدت هونكه في حياتها أهوال الحربين العالميتين لأنها ولدت قبيل الحرب الأولى بنحو عام وأنهت دراستها الجامعية في منتصف الحرب الثانية. وبعد انتهاء تلك الحرب توجهت إلى المغرب ودرست اللغة العربية، كما بدأ تعلقها بالتاريخ العربي والدين الإسلامي منذ تلك الفترة المبكرة. وعلى رغم أنها واجهت أحياناً مواقف مناهضة لأفكارها، إلا أنها نالت أيضاً جوائز وكانت محط احتفالات تكريم، منها وسام «النجمة الكبرى» في مصر، حيث قلدها الرئيس المصري ذلك الوسام في عام 1988 بجامعة الأزهر، عرفاناً وتقديراً لما قدمت في محاضراتها وكتاباتها من إضاءات فكرية منصفة للإسلام. وكان اهتمام زيغريد هونكه مركزاً على كشف الحقائق التاريخية ونشرها بين الناس، وعدّت ذلك رسالتها في الدراسة والكتابة والحياة العلمية بشكل عام، وقد ساعدتها بيئتها العائلية على المضي بنجاح في حمل هذه الرسالة ونشرها، وذلك لأن والدها هاينريش صاحب دار نشر، كما أن زوجها شولتزا كان مستشرقاً كبيراً ودبلوماسياً يتقن اللغة العربية. ونظراً لاهتمامها بالتاريخ والفلسفة والمقارنة بين الأديان، فقد اهتمت كثيراً بنشر وتأكيد الوقائع التاريخية المشرقة عن العرب، خاصة أن بعض المؤلفين في الغرب كان يزعم أن العرب نقلوا وترجموا الفلسفة الإغريقية والقانون الروماني دون إبداع، فجاءت هونكه لتكشف عن الإنجازات العلمية الكبرى التي أنجزها العرب والمسلمون، وتؤكد حقائق التاريخ العربي في رحاب الإسلام وأهمية العمران العربي في مسيرة الحضارة الإنسانية بصفة عامة، وهذه حقائق ثابتة لا تقبل التعامي والتجني والتشويه. ومن أهم كتبها أيضاً كتاب بعنوان: «التوجه الأوروبي إلى العرب والإسلام حقيقة قادمة وقدر محتوم». وهذا التأكيد على الإسلام حتى في العناوين هو أوضح دلالة وأصدق شاهد على محبتها للإسلام وحرصها على التنوير والتبصير بتعاليمه الروحية والإنسانية والحضارية في المجتمعات الغربية.