محمد عبد السميع (الشارقة)
هناك كوكبة من العلماء والباحثين تصدت بأمانة للهدف العلمي، وأداء الرسالة الأكاديمية والإنسانية والوفاء بالتزاماتها، بالدرس والمقارنة والبحث والتأليف.
ولا شك أن هذا القول ينطبق على المستشرقة الألمانية الشهيرة آنّا ماري شيمل (1922-2003)، التي وصل صيتها إلى مؤسسات عالمية، واحتفت بها مؤسسات عربية وإسلامية، وكانت محطّ أنظار المفكرين، لدأبها الفكري ومنهجيتها الموفقة في دراسة الإسلام ومقاربته على أكثر من صعيد، ويكفي كتابها «الإسلام دين الإنسانية» نموذجاً للدخول إلى أثرها الفكري والبحثي وسيرتها المضيئة، وموقفها الإيجابي تجاه الدين الإسلامي.
لقد كانت المستشرقة آنّا ماري بحسب الدارسين شغوفةً منذ طفولتها بالشرق وروحانية الإسلام وصفائه وصوفيّته، بل والأديان الشرقية عموماً، ما جعلها تسارع إلى تعلّم اللغة العربية في الخامسة عشرة من عمرها، لتزيد عليها لاحقاً اللغات الفارسية والتركية والأوردية، وتدرس مبادئ الدين الإسلامي وتاريخه، ومن هنا يتبيّن مقدار الشغف المبني على تحصيل الأدوات المعرفية المساندة والموضوعية في الدراسة.
وبعد مسيرة من النجاحات، أسند إلى المستشرقة آنّا ماري سنة 1970 كرسي تاريخ أديان الشرق في جامعة هارفارد الأميركية، وأعطت أيضاً دروساً في لندن في مؤسسة الأبحاث الإسلامية. وقد ترجمت قصائد لجلال الدين الرومي والحلاج وميرزا أسد الله وغالب الدهلوي ومحمد إقبال، ليتكلل هذا الاشتغال الدؤوب بإصدارها سنة 1985 كتاب «محمد رسول الله»، باللغتين الألمانية والإنجليزية، وفيه كانت معجبةً أشدّ الإعجاب بشخصية النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، لتنجز تالياً أكثر من 100 كتاب ودراسة ومقال في مجال الدراسات الإسلامية، حول موضوع التعريف بالإسلام والرسول، صلى الله عليه وسلم، وتاريخ الحضارة العربية الإسلامية، والصوفية، والفكر الصوفي، والشعر العربي والتركي. وأيضاً في مجال الفنون الإسلامية، والخط العربي، والحياة المعاصرة للمسلمين، وتقديراً لكل ذلك منحت جائزة السلام الألمانية من اتحاد الناشرين الألمان، وهي الجائزة التي سُلّمت لها كأول مستشرقة ودارسة للإسلام، من قبل الرئيس الألماني شخصيّاً سنة 1995. وهذا الحضور في بلدها والعالم جعل العواصم العربية والإسلامية تفتح لها المنابر والمنصات، وتمنحها أوسمة رفيعة، حيث نالت أوسمة وتكريمات في القاهرة، والرياض، ولاهور، وأنقرة، وطهران، وغيرها من عواصم العالم الإسلامي، حيث تم الاحتفاء بها كمثقفة صاحبة نظرة منصفة وجهود موسوعية، وكداعية للتسامح والتعايش والتفاهم بين الأديان.
لقد كان كتابها «الإسلام دين الإنسانية» محطّ إعجاب الجميع، لتصحيحها من خلاله مغالطات ومفاهيم خاطئة أشيعت عن هذا الدين الحنيف، ودراستها علاقة العرب والمسيحية واليهودية ومكانة اللغة العربية والشعر في تاريخ الجزيرة العربية الديني والاجتماعي قبل الإسلام، لتقرأ سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم، وفترة الخلفاء الراشدين والدولة الأموية والدولة العباسية ودولة المماليك، وانتشار الإسلام في بلاد الهند والصين وآسيا وإندونيسيا وآسيا الوسطى، وبلاد أخرى.
وكانت مواضيع الكتاب غنيةً بتنوّعها في دراسة السُّنّة النبوية وتدوينها علوم الشريعة والمذاهب الفقهية والفرق والفلسفة الإسلامية وعلم الكلام وعلوم الطبّ والطبيعة في الحضارة العربية الإسلامية ومواضيع عديدة أخرى ذات علاقة.
لقد حاولت آنّا ماري شيمل أن تبيّن أنّ الاستشراق ليس بالضرورة عدوّاً للإسلام، وأنه مهمٌ في دراسة هذا الدين، في المنهج والعقيدة، وترجمه الآداب والفلسفات الإسلامية إلى اللغات الأوروبية. وهكذا، تكون هذه المستشرقة والباحثة والأديبة نموذجاً للفكر المنصف، في توخّيها الحقيقة وانسجامها في قراءة جوهر الإسلام.