الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«بينالي الدرعية».. فضاءات الفن وشاعرية المكان

من الأعمال الإبداعية في بينالي الدرعية (من المصدر)
7 مارس 2024 01:08

نوف الموسى (الرياض)
هنالك رائحة محببة تُهديها الأرض للإنسان بعد هطول المطر، ولذا فلابد من تفسير جمالي بمقدوره توسيع الإدراك نحو كل هذا البوح الكوني في الطبيعة، ولعلها لغة وجودية رفيعة مرتكزة على الحواس، بوصفها نافذة على الروح، وبوابة شاسعة لاكتشاف اللحظة الإنسانية الفارقة في جوهر سؤالها الأبرز عن إمكانية تطوير العلاقات الرئيسة بين المكونات الأساسية للحياة الطبيعية على كوكب الأرض. ومن هنا اتخذت النسخة الثانية لـ«بينالي الدرعية للفن المعاصر 2024»، التي تقام في حي جاكس بالدرعية، في العاصمة السعودية الرياض، بتنظيم من مؤسسة بينالي الدرعية، خلال الفترة من 20 فبراير، وحتى 24 مايو المقبل، بحثاً لإضفاء المعنى الإنساني لماهية الفكرة الفلسفية لمفهوم الأرض ما بعد الغيث، وهي دلالة نوعية للتحولات الثقافية والفنية للحراك الإبداعي الراهن في المملكة العربية السعودية.

مرويات متوازية
واللافت في الاحتضان الممتد لنحو 6 قاعات وفناءات داخلية وخارجية بمساحة 12,900 متر مربع، تتضمن قرابة 177 عملاً فنياً بمشاركة 100 فنان ما بين مبدعين وباحثين ومواهب سعودية ودولية، المحاولة الرصينة من فريق القيّميين الفنيين، لسرد مرويات متوازية من مختلف المدن السعودية، تسمح للمتلقي بالمشاركة التفاعلية لابتكار تشكلات فكرية وأنماط نقاشية جديدة، تحول كل الطبيعة والإيقاعات الحياتية اليومية إلى تجربة لحظية متفردة، فالأعمال الفنية من خلال وسائط متعددة، ارتحلت عبر الموروثات الحديثة وشاعرية المكان، واهتمت بالقصص والسرديات التاريخية، من خلال البيئات وعلاقتها بالكائنات، وجميعها تصف رمزية «الماء» و«الغذاء» و«الاستشفاء»، كمحاور معرفية، تنطلق من فهم احتياجات الإنسان الأولية بتجاه مرحلة إلهام الوعي الإنساني، وقد وصفتها أوتي ميتا باور المديرة الفنية لـ«بينالي الدرعية للفن المعاصر 2024» في حوار لـ«الاتحاد الثقافي»، بأنها الطاقة الاستثنائية لمختلف الأجيال الحالية في المملكة، ومنطقة الخليج العربي عموماً، وما تعبر عنه من مخزون حضاري، من شأنه أن يلقي الضوء على آلاف التصورات والممارسات الاجتماعية المستمدة من الحياة الطبيعية، معتبره أن ما يثريه «بينالي الدرعية» هو اكتشافنا لكيفية تعاطي الفنان السعودي مع صميم ملاحظاته للموروث والعفوية الحدسية لإنسان هذه الأرض وتأثيرها في البنية الثقافية للمجتمع، والذي بطبيعته يهدينا جميعاً أفقاً مغايراً لكيفية رؤيتنا للمنطقة ودورها في إثراء المشهد الثقافي والفني العالمي.

عراقة تاريخية وثقافية
وتتميز محافظة الدرعية بالعراقة التاريخية والثقافية، إلى جانب حضور «حي الطريف التاريخي» ممثلاً موقعاً للتراث العالمي وفقاً لإعلان منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة وهو يعتبر من أهم معالم الدرعية الأثرية، متضمناً القصور والمباني، وجميعها مثلت جزءاً من خريطة المسيرة الفنية لبينالي الدرعية. فالزائر يستمد قوة المرويات الفنية من خلال المحيط التاريخي للفضاءات الإبداعية، وسط نمو متسارع لحي جاكس بالدرعية، إضافة إلى تأسيس منظومة متكاملة لتسهيل عملية الإنتاج الفني.

وقد اعتبرت المديرة الفنية لبينالي الدرعية أوتي ميتا باور أن المملكة العربية السعودية مرت بالكثير من المتغيرات المذهلة في مختلف القطاعات الحيوية، ومنها بكل تأكيد القطاع الثقافي، فعندما نتحدث عن تكليفات فنية لوزارة الثقافة، ومشاركات دولية لفنانين سعوديين، إضافة إلى استضافة ملتقيات فكرية وثقافية دولية، والبدء بتأسيس حاضنات ومنصات إبداعية، فإننا أمام اشتغال منهجي ومتراكم للمعنى الثقافي من الفنون ودورها في المجتمعات الإنسانية وبحثها عن الحياة المستقبلية، ومجابهة بعض التحديات الراهنة، من مثل المتغيرات المناخية، وسؤال الهوية، وعلاقتنا جميعاً بالأرض. وأهم ما سينتجه بينالي الدرعية، بحسب وجهة نظرها، هو الحوار المباشر والحيّ حول كيفية تطوير الحراك الفني في المنطقة، واستكمال مكوناته في المجالات التعليمية بالمملكة، إلى جانب بناء المتاحف واستكشاف الفن المعاصر ضمن الرؤية الفنية للأجيال الصاعدة، وكيفية العمل على تأصيل العلاقة الاجتماعية الممتدة بين استوديوهات الفنانين والمجتمع العام، الذي يجسر أوصاله المعنيون من مؤسسات وأفراد في المجتمع الفني.

قراءات نقدية
وفي الرؤية الفنية للاشتغالات الإبداعية الخاصة بالأعمال المشاركة في «بينالي الدرعية للفن المعاصر 2024»، تنوعت القراءات النقدية، والموضوعات النقاشية، حول الطريقة البحثية والمواد الأولية التي اختارها الفنانون، للتعبير عن الأرض «ما بعد الغيث» شعار البينالي، حيث يجد الزائر في بعضها فيضاً من السعادة والاستبشار بكل ما هو آتٍ من الطبيعة، وفي المقابل فقد يجد أيضاً ترقباً ومحاولة لحماية الفعل الفطري للأرض نفسها، وحدسية علاقة الإنسان بها، وكيف أن جميع ما ذكر يساهم في البناء المعماري للمدينة، وتحديد المساحات التي يتحرك من خلالها العالم في داخل المدن الكبيرة، وكيف تتشكل الأفكار اتجاهها.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فعندما نشاهد عمل الفنانة السعودية ريم الناصر، مواليد 1987، المعنون «النوافذ الزرقاء»، نلاحظ كيف اهتمت بالتاريخ الشفاهي، بالتعمق وطرح التساؤلات حول بعض السلوكيات الاجتماعية، التي تحدد هوية الفرد، من خلال عرض مجموعة من الأغصان المتفحمة تعود إلى غابات عسير الجبلية، كونها شاهدة على الحرائق التي اجتاحت أشجاراً يزيد عمرها على مئة عام في المنطقة. ويشيد العمل بأحد أهم الموارد الطبيعية في المنطقة، كما تذكرنا زخارف وألوان الهيكلين المعدنيين بنوافذ أبها التراثية، التي تطل عادة باللون الأزرق في إشارة إلى السماء وطلب البركة لأهل المنزل.

حالة بصرية ملهمة
وفي ذات البحث عن المكان كحالة بصرية ملهمة تشكل تعبيراتنا ومنظورنا الاجتماعي والثقافي، قدمت الفنانة الهندية سحر شاه، ضمن مشاركتها من خلال عمل عنوانه «ملاحظات من مدينة مجهولة»، تفاصيل الفترة التي أمضتها في مدينة نيودلهي، حيث تتداخل في العمل الانطباعات والملاحظات الشخصية، مع تأملات العمارة والتاريخ وبعض القضايا السياسية المعاصرة. وقد عملت فيه على نصوص تعود لتدوينات كتبتها حول المدينة، وجعلتها مقترنة بدلالات معمارية تجريدية عميقة، جعلتها بمثابة عملية توثيق للوقت، وخلق مساحة مشتركة بين اللغة والشعر والموسيقى والعمارة، ما يتيح لها طرح تساؤلاتها حول البيت والانتماء وأبعاد التعددية في مجتمع بحجم مدينة نيودلهي.

تحولات جوهرية
وجاءت المجموعة الفنية «نخل وقوس وشظايا» للفنان السعودي عبدالرحمن السليمان، مواليد عام 1954، من رواد الفن التشكيلي في المملكة، ضمن مشاركات بينالي الدرعية 2024، شاهداً على مرحلة تحولات بيئية جوهرية، حيث أوضح الفنان عبدالرحمن السليمان في حوار لـ«الاتحاد الثقافي»، أنه يتحدث عن الصورة التي عايشها مع جيله من أحداث دراماتيكية.. وبالنسبة له فهو يعمد في أعماله إلى هندسة الأشياء، والاهتمام بالمعالجة اللونية وعلاقتها بالمساحات بعيداً عن التمثيل والمحاكاة، حيث إنه يميل إلى التجريد، وتابع قائلاً: «الموروث والمعطيات البيئية المحلية، ظلت دائماً جزءاً مهماً من سياق بحثي الفني، وذاكرتي ومحيطي دائماً يحضران في السرديات اللونية للعمل». وفي سياق مضامين بينالي الدرعية للفن المعاصرة، ودوره في دعم الحراك الثقافي بالمملكة، أشار الفنان عبدالرحمن السليمان إلى أن علينا أن ندرك مسألة مهمة هي أن البينالي يمثل تتويجاً لتطور الحركة الإبداعية للفن السعودي، التي بدأت منذ الستينيات، وقدمت أسماء مهمة، وشهدت دعماً مستمراً من هيئات ومؤسسات بحثية وفنية متعددة، مثل الرئاسة العامة لرعاية الشباب، وجمعية الثقافة والفنون، والجمعية السعودية للفنون التشكيلية، إلى جانب المشاركات الدولية للفنانين السعوديين، والملتقيات المهمة التي استضافتها المملكة ومن أبرزها بينالي الفنون الإسلامية في مدينة جدة، إضافة إلى احتفاء المملكة بالمدن الثقافية والتاريخية مثل مدينة العُلا، وغيرها من المدن السعودية، وتعزيز مفهوم المكنون الإنساني والاجتماعي وتأثيره على الهوية وجمالياتها في المفردات الأدبية والمعمارية والموسيقية للمدن الثقافية.

معنى الأشياء
وتتجلى جماليات الأعمال التركيبة المبنية على التصورات الفنية والعلمية في «بينالي الدرعية» في أنها قدمت بعداً نوعياً في ماهية رؤية الطبيعة نفسها، باعتبارها العمل الفني الأكبر، فلنا أن نتخيل مثلاً كيف أن الفنانة والباحثة النرويجية سيسيل تولوس، وبتكليف من مؤسسة بينالي الدرعية، قدمت تجربة علمية بعنوان «تربة»، استخرجت من خلالها المكونات الكيميائية والجزئيات الخاصة بالرائحة الناتجة من التربة بعد هطول الأمطار، موضحةً في حديثها لـ«الاتحاد الثقافي»، أن التجربة قائمة على سؤال جوهري مفاده: لماذا يشعر الأشخاص براحة تامة، عندما يعملون في الحدائق المنزلية أو المزارع المفتوحة، وخاصةً بعد التمازج البديع الذي يحدثه الماء بالتربة، وتحديداً بعد هطول الأمطار، أو ما يعرف عربياً بـ«الغيث»، فهناك بكتيريا بالطبع، وحالة كيميائية تصل إلى أدمغتنا، وقد ودت تفكيك بياناتها، من خلال تفسير التفاعل الحسي مع الأنف البشري، القادر على التمييز، وإعطاء المعنى للأشياء، وذلك بناء على العلاقة العميقة مع الهواء الذي نتشاركه جميعاً بشكل لحظي، ولنا أن نتصور أنه من خلال استخدام حاسة الشم، فإننا نتواصل عبر قوة مشاعرنا الحاضرة في البيئة المحيطة المحلية إن صح التعبير، والبيئة العالمية بالمعنى الواسع للتجربة الإنسانية. وتعزيز ذلك الحس، إنما هو دعوة لإحداث التواصل فيما بيننا. 

رائحة المحبة
وقالت الفنانة النرويجية: بالنسبة لي لا أريد أن نفقد هذه القدرة الحسية المتفردة، وهو ما قد تسببه المتغيرات التقنية وربما التكنولوجيا السريعة. فأحياناً الروائح باختلافها تهديك مساحات حوارية غير متناهية فمثلاً للمحبة رائحة وللسلام رائحة وكذلك للخوف وللحزن والمآسي رائحة، ودورنا هو استشعارها وتوسيع نطاقات استنباط المعنى منها، من خلال النقاشات الفنية بشكلها الاعتباري، والنقاشات العابرة في تفاصيل حياتنا اليومية الاعتيادية. وأضافت الفنانة سيسيل تولوس نقطة مهمة، هي فكرة إعادة إنتاجها للتركيب الكيميائي لرائحة من الطبيعة، إذ إنها حالة استثنائية تماماً لكيفية تفكيك الذاكرة والعاطفة في العناصر الطبيعية، والتي بالتأكيد تمثل مرجعيتنا الحسية على مدى العصور، إنها معجزة أن نتأمل الهواء، كونه فضاء جامعاً للهوية الإنسانية.

عفوية خلّاقة
لا يُمكن التوقف عند فكرة أن الأعمال الفنية هي فقط دعوة لاستشفاف الجمال، وطرح الأسئلة الكبرى، بل هي كذلك مواجهة حاسمة مع الطبيعة المتغيرة بذاتها، فعندما نعود مثلاً للفنانة الفلبينية مارتا أتينسا، وعملها الفني في «بينالي الدرعية»، المتعلق بجزيرة بانتايان، تسرد لنا في حوارها لـ«الاتحاد الثقافي»، بشكل بدهي أنه لا يمكننا أن نمتلك الطبيعة، وأن حضور حالة المحميات، هو في أصله اعتراف منا بالاستقلالية التامة للطبيعة، في كونها تمتلك عفوية خلّاقة في بناء علاقتها مع الإنسان والكائنات باختلافها، أو حتى تلاشي ذات العلاقة، بحسب الاحتياجات الرئيسة للحفاظ على بنية البيئة الطبيعية. فهي دائماً تمتلك صوتها المجازي الخاص، والعمل الفني هنا محاولة لجعلنا ننصت إليها وتنصت إلينا بطريقة ما. وقد عملت الفنانة. ويلاحظ المشاهد كيف تقوم في عملها رافعات آلية برفع النباتات وإنزالها في الماء بحيث تنغمر جذورها في إيقاع حركي يحاكي حركة المد والجزر. ويضم العمل أيضاً فيلمين صامتين يركزان على سكان الجزيرة من البشر، وتأثير الإنسان على هذه النباتات التي توفر حماية طبيعية للسواحل.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©