السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«أوبنهايمر».. صراع العلم والضمير

بوستر فيلم أوبنهايمر (الصور أرشيفية)
15 فبراير 2024 02:18

علي عبد الرحمن (القاهرة) 
قدم عالم الفيزياء الأميركي جوليوس روبرت أوبنهايمر حدثاً تاريخياً غير مسبوق، بصناعة القنبلة النووية، والتي تم تجريبها في الحرب العالمية الثانية، في مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين وقتلت أكثر من 200 ألف شخص، بجانب الأضرار البيئية التي استمرت لعدة عقود.
سيرة العالم الذاتية كانت غاية في الثراء الأدبي، لما تضمنته من أحداث على كافة المستويات الإنسانية والسياسية والعلمية والعسكرية، ومواقفه المخالفة في كثير من الأحيان، مما عرضه لتحديات جسيمة، فكانت حياته مادة خصبة أيضاً للدراما وتقديم عمل سينمائي قوي عنها.
استغل الكاتبان الأميركيان كاي بيرد، ومارتن ج. شيروين هذا الثراء، وتناولا السيرة الذاتية لأوبنهايمر بعنوان «بروميثيوس الأميركي: انتصار ومأساة جي روبرت أوبنهايمر»، وصدر الكتاب عام 2005، وعكفا على مدار ربع قرن في سرد روائي لسيرة أشهر شخصية في القرن العشرين والملقب بـ «أبو القنبلة الذرية»، من 700 صفحة، بدءاً من طفولته والفترة التي قضاها في جامعة كامبريدج، باعتباره معجزة فكرية غير مسبوقة، وصولاً إلى شهرته بما قدم من مساهمات كبيرة في الفيزياء، وحصد الكتاب جائزتي «دائرة نقاد الكتب الوطنية»، و«بوليتزر».
النشأة والدراسة 
يبحر المؤلفان في نشأة العالم الأميركي المولود في 22 أبريل 1904، لعائلة من المهاجرين الألمان اليهود، واهتماماته منذ الصغر بدراسة الفيزياء والكيمياء، وتخرجه في المدرسة الثانوية بتفوق مع مرتبه الشرف عام 1921، والتحاقه بجامعة هارفارد الأميركية لمدة عام، وحصوله على البكالوريوس في الكيمياء عام 1925، وسفره إلى ألمانيا واستكمال الدراسات العليا وحصوله على الدكتوراه من جامعة غوتينغن عام 1927، مروراً بتحقيقه العديد من الإنجازات العلمية عند عمله أستاذاً متفرغاً بجامعة كاليفورنيا.
ويأخذ السرد الأدبي منعطفاً دراماتيكياً مع بداية الحرب العالمية الثانية، عندما تم تعيين أوبنهايمر مديراً علمياً لمشروع مانهاتن، وهو مبادرة حكومية أميركية سرية للغاية، كانت تهدف إلى تطوير أول قنبلة ذرية، وضم المشروع العديد من العلماء الذين فروا من الأنظمة الفاشية في أوروبا، وكانت مهمتهم استكشاف عملية الانشطار الموثقة حديثاً لعنصر «اليورانيوم 235»، حيث كانوا يأملون في صنع قنبلة نووية قبل أن يتمكن أدولف هتلر من تطويرها. ولعبت مهارات أوبنهايمر القيادية والتنظيمية دوراً أساسياً في المشروع، وبعد أقل من 3 سنوات من تأسيس المختبر، تم إجراء أول اختبار للأسلحة النووية في العالم، والذي أطلق عليه اسم اختبار «ترينيتي»، في صحراء جورنادا ديل مويرتو في 16 يوليو 1945، ونجح في إثبات فعالية القنبلة، لكنه تسبب لعقود في الضرر الجسيم للسكان الأصليين بالمنطقة.

التدمير الهائل
بعد 3 أسابيع من الاختبار، قررت الحكومة الأميركية في السادس والتاسع من أغسطس 1945، إلقاء قنبلتين ذريتين فوق هيروشيما وناجازاكي، منهية الحرب العالمية الثانية، وأدت التفجيرات إلى مقتل 200 ألف ياباني، وبعد مشاهدة أوبنهايمر القدرة التدميرية الهائلة للقنبلة التي صنعها، استقال من منصبه كمدير لمختبر مانهاتن.
ومؤخراً قدمت السينما السيرة الذاتية لأوبنهايمر في فيلم جسد دوره الممثل الأيرلندي كيليان مورفي، في شريط سينمائي مدته 3 ساعات و9 ثوانٍ، وأخرجه البريطاني كريستوفر نولان، الذي أخذ المشاهدين في رحلة فنية ذهاباً وإياباً، من حيث استكشاف حياة وإرث العالم الأميركي، جعل المتفرج يعيش جوانب أخرى من حياته دون الحكم عليه إيجابياً أو سلبياً، موضحاً «ما أردت فعله هو أن آخذ الجمهور إلى ذهن وتجربة الشخص الذي جلس في المركز المطلق لأكبر تحول في التاريخ، سواء أعجبك ذلك أم لا، فإن أوبنهايمر أهم شخص عاش على الإطلاق، جعل العالم الذي نعيش فيه، للأفضل أو للأسوأ».
وسلط المخرج الضوء على أهم فترة في حياة العالم الشهير وانتقاله إلى إنجلترا بعد تخرجه في هارفارد، وعمله بجانب العالم البريطاني «جي جي طومسون» الحائز جائزة نوبل، بمختبر «كافنديش» بجامعة كامبريدج، وانتقل المخرج بمشاهديه من إنجلترا إلى ألمانيا، حيث دراسة أوبنهايمر بجامعة غوتنغن، وحصوله على الدكتوراه في فيزياء الكم.
توافق 
توافق الكتاب والفيلم على طبيعة ميول أوبنهايمر واهتماماته بالقضايا السياسية اليسارية، واكتسب العالم الأميركي سمعته خلال حياته باعتباره متعدد العلاقات العاطفية، الأمر الذي أبرزه المخرج سينمائياً، بدءاً من علاقته مع جين تاتلوك عام 1936، نجلة أستاذه بجامعة كاليفورنيا، مروراً بزواجه من «كاثرين بوينغ» في نوفمبر 1940، بعد وقت قصير من طلاقها، ورزقا بابنيهما «بيتر» و«كاثرين»، وخلال زواجه من كيتي، أعاد أوبنهايمر علاقته مع حبيبته السابقة «تاتلوك» وشكل استمرار تواصله معها مشكلة بسبب ميولها الشيوعية، وكان آخر علاقاته العاطفية مع الاختصاصية النفسية «روث تولمان»، زوجه صديقة وزميله العالم الأميركي ريتشاد تولمان.
فيما صور المخرج معاناه زوجته «كيتي» من إدمان الكحول، وتخليها عن مسيرتها العلمية، وعملها فني مختبر في لوس ألاموس، كما صور تناقضاً نفسياً آخر في دعمها اللامحدود لزوجها طوال حياته العملية والإنسانية، وموقفها الجرئ إبان جلسة الاستماع للجنة الانتخابية المستقلة عام 1954.

«يدي ملطختان بالدماء»
بعد الحرب، تذبذب الرأي العام حول استخدام القنبلة الذرية، وأثناء زيارته للبيت الأبيض في أكتوبر 1945، كما يظهر في الفيلم، أخبر أوبنهايمر الرئيس هاري ترومان، وجسد دوره الممثل الأميركي غاري أولدمان، «سيدي الرئيس، أشعر أن يدي ملطختان بالدماء»، ومع ذلك، تم الترحيب به باعتباره بطلاً قومياً من قبل الكثيرين.
وفي 1946، حصل على وسام الاستحقاق، وتم تعيينه رئيساً للجنة الاستشارية العامة عندما أصبح مشروع مانهاتن تحت اختصاص لجنة الطاقة الذرية، وهي الوكالة المكلفة بالإشراف على الأبحاث والتطوير الذري في الولايات المتحدة، وفي 1947، تم تعيينه مديراً لمعهد الدراسات المتقدمة. 
عارض أوبنهايمر بشدة تطوير القنبلة الهيدروجينية، «القنبلة الخارقة» التي ابتكرها العالم المجري «لوس ألاموس إدوارد تيلر» وجسد دوره الممثل الأميركي بيني سافدي، معللاً بأن القوة التدميرية للقنبلة الهيدروجينية أقوى ألف مرة من الذرية التي صنعها، لذلك تعرض لمضايقات بسبب مواقفه هذه، وقال عنه صديقه وزميله الفيزيائي «إيسيدور إسحاق رابي»، وجسد دوره الممثل الأميركي ديفيد كرومهولتز، «إن أوبنهايمر كان رجل سلام وقد دمروه»، وأدى موقفه بشأن القنبلة الهيدروجينية، ليصبح في مرمي نيران السياسيين البارزين المؤيدين لتطوير القنبلة، مما أوقعه في العديد من المتاعب على المستويين السياسي والعملي.
وكان عالم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين حاضراً في الأحداث، ولعب دوره الممثل البريطاني توم كونتي، وقال جملته الشهيرة لأوبنهايمر «الآن جاء دورك لمواجهة عواقب إنجازك»، وفي الإطار الزمني نفسه للمشهد، يتسلم أوبنهايمر جائزة «إنريكو فيرمي»، أعلى وسام من لجنة الطاقة الذرية الأميركية، من الرئيس جونسون.
أحداث عميقة
يرى المؤرخ محمد رفعت، كما قال لـ«الاتحاد»، أن المخرج لم يسلط الضوء على وقائع الحرب وما نتج عن إلقاء قنبلتين ذريتين فوق هيروشيما وناجازاكي، والتفجيرات المدمرة، ولكنه قدم أحداثه بصورة أعمق، كشف خلالها عن الجوانب الإيجابية في حياة أوبنهايمر، وشعوره بالندم جراء ما سببه من كارثة إنسانية وبشرية يعانيها العالم حتى الآن.
وأوضح أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتور أيمن سمير لـ«الاتحاد»، أن الكتاب والفيلم يدقان جرس إنذار لأعضاء النادي النووي، ورسالة للعالم للضغط على صناع القرار لحصر استخدام الطاقة النووية في الأغراض السلمية فقط، وجرس إنذار آخر، بعد أطروحات نقل الأسلحة النووية إلى الفضاء عبر ما يعرف بالسفن الجيوفضائية، عند حدوث ذلك لن يقتصر التهديد النووي على الكوكب فقط، ولكن أيضاً البيئة الخارجية للأرض.
الاختلاف الفني
شهد الفيلم اختلافاً عن النص الأدبي، فقد التفت المخرج عن طفولة أوبنهايمر على الشاشة ولم يظهر أحداثها، مع أن نشأته ساهمت في وجهات النظر التي يتبناها طوال الفيلم، حيث مولده لعائلة يهودية علمانية ثرية في نيويورك، وتلقى تعليمه في مدرسة الثقافة الأخلاقية في مانهاتن. والاختلاف الثاني أن المخرج سلط الضوء على الجانب الإنساني لحياة أوبنهايمر، وانحيازه إلى ضميره، بعد ما تسبب فيه نتيجة إنجازه العلمي، ودخوله في حروب شرسة من أجل عدم تطوير الأسلحة الفتاكة ووقف صراع التسلح بين أميركا والاتحاد السوفييتي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©