الإثنين 25 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مراد وهبة.. مفكراً تنويريّاً

مراد وهبة.. مفكراً تنويريّاً
18 يناير 2024 00:57

إيهاب الملاح

(1)
في ذروة المد الأصولي الإسلاموي في مصر في تسعينيات القرن الماضي، وسيطرة تيارات الإسلام السياسي سيطرة شبه تامة على بعض مؤسسات التعليم والنقابات والمحليات ومنظمات العمل الأهلي، فضلاً عن هيمنتهم باسم الدين والمبادئ الدينية على قطاعاتٍ واسعة وشرائح عديدة من الطبقات الاجتماعية المصرية، وخاصة الشرائح الدنيا والوسطى والطبقات الفقيرة «الغفيرة»، علا صوت التكفير والأسْلمة وتسارعت عمليات صبغ المجتمع المصري بصبغة قاتمة، تتنافى وطبيعته التاريخية المتسامحة المسالمة، وسماته الثقافية الموروثة من تسامح ونبذ للتعصب وانفتاح على الآخر وقبول للتعدد والتنوع، وإقبال على الحياة وحب للاحتفال والاحتفاء بالبهجة، وتغير كل ذلك بدرجةٍ مقلقة أصبحت تهدد تماسك هذا المجتمع ونسيجه الحي بل تهدد بقاءه من الأساس (يمكن القول إن وتيرة هذا التهديد بدأت في التصاعد والتسارع منذ سبعينيات القرن الماضي، ووصلت إلى الذروة في صدام الجماعات الدينية المتطرفة مع المجتمع كله في 2013 وما تلاها من مواجهات بين الدولة المصرية والجماعات الإرهابية).
وفي مواجهة هذا التحدي حاول بعض المثقفين أحرار الرأي التصدي لهذا المد العنيف بالفكر والكتابة والرأي، فدفع بعضهم حياته ثمناً لذلك (تم اغتيال الكاتب والمفكر فرج فودة في يونيو من عام 1992)، وتعرض الكاتب والروائي نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل للآداب 1988 لمحاولة اغتيال، وكاد يموت في تلك المحاولة الوحشية وكان عمره 77 عاماً، ونتج عن هذا توقفه عن الكتابة تماماً بعد أن أصيبت أعصاب اليد اليمنى إصابة مباشرة وفادحة.
وصدر حكم قضائي نهائي بالتفريق بين المفكر نصر أبوزيد وزوجته على خلفية أبحاثه وكتاباته الناقدة لجوانب من الفكر الديني والخطابات الدينية المنتجة للتفسيرات المتشددة.. إلخ. 
وفي وسط هذا المناخ الحاد المحتدم برز صوتان متخصصان في الفلسفة تصديا بعقلانية رشيدة، ومنهج نقدي تحليلي لخطابات الإسلام السياسي، وخطابات التطرف والتعصب والإرهاب، أولهما كان الدكتور فؤاد زكريا (1927-2010) صاحب الكتابين المرجعيين «الصحوة الإسلامية في ميزان العقل»، و«الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة».

(2)
أما الثاني، فاتخذ طريقاً مختلفاً موظِّفاً خبراته الأكاديمية والتدريسية والبحثية في مجال الفلسفة وهو الدكتور مراد وهبة (من مواليد أسيوط بصعيد مصر في 13 أكتوبر 1926)، أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس، وصاحب المؤلفات المشهورة، والصيت العلمي والفكري في الأوساط الأكاديمية والثقافية المصرية والعربية بل والغربية أيضاً.
واتخذ مراد وهبة من تحليل وتفكيك المفاهيم الإسلاموية منهجاً أساسياً في هذه المواجهة في تسعينيات القرن الماضي، ولم يعتمد مبدأ الهجوم المباشر، كما لم يلجأ إلى مبدأ السجال والرد الانفعالي، بل صب جهده كله في تحليل المفاهيم تحليلاً علمياً، وترسيم حدود الدلالات لكل منها فيما كان يقصده ويوظفه الإسلامويون.
وفي المقابل، بذل جهداً كبيراً في تأصيل المفاهيم الفكرية والفلسفية المواجهة لمفاهيم الإسلامويين، وركز على إبراز التضاد والتعارض والحدود الفكرية الواضحة بين ثنائيات العقل والنقل، المطلق والنسبي، التقييد والإرسال، الحرية والتبعية، التسامح والتكفير... إلخ.
واستهل مساراً «تنويرياً» مزدوجاً، إذا جاز التعبير، فالمسار الأول ينهض بإعادة شرح وتبسيط المفاهيم الأساسية كالتنوير والعقلانية والحرية والديمقراطية، كما أنتجها مفكرو ومثقفو الغرب على مدى أربعة قرون هي عمر النهضة الأوروبية التي قطعتها والحداثة التي أنجزتها منذ القرن الخامس عشر الميلادي وحتى منتصف القرن العشرين. 
أما المسار الثاني، فهو إعادة قراءة وتأويل خطابات الفلسفة الإسلامية التي اتخذت من «العقل» هادياً ومرشداً ودليلاً معتبراً أن ممثل هذا التيار هو الفيلسوف الفقيه ابن رشد القرطبي، وقد دفع ابن رشد ثمناً غالياً جداً لدعوته تلك إلى إعلاء قيمة العقل، فإذا كان العقل هو مرجعنا الأساس و«أداتنا الطبيعية التي وهبنا الله إياها» في فهم النصوص الدينية فهو مرجعنا أيضاً في فهم الواقع ومعرفة الطبيعة واكتشاف قوانينها، وفي الاستفادة من التجارب والخبرات البشرية المتراكمة عبر العصور، وفي التصدي للمشكلات والعمل على حلها.
وإذن فنحن بفلسفة ابن رشد ومنهجه أحرار ولسنا قطعاناً تخاف وتطمع وتطيع وتسمع كما أراد بعض الفقهاء والأصوليين للمسلمين في أيام ابن رشد أن يكونوا فتمّ لهم ما أرادوا لأن الاحتكام إلى العقل يحرر المؤمنين من سلطة رجال الدين. ومن هنا وقف بعض رجال الدين التقليديين «الفقهاء» آنذاك من العقل موقف العداء الصريح وشككوا في قدراته واعتبروه خطراً يهدد الإيمان، وانعقد حلف بين بعض حكام الأندلس وفقهائها وقتذاك لإسقاط فكر ابن رشد، ووصمه بالكفر والمروق من الدين والزندقة، وأحرقت كتبه في قرطبة، ونفي ابن رشد إلى قرية «اليسانة» من قرى الأندلس التي كان يسكنها غير مسلمين، إعلاناً وتعبيراً أنه لم يعد مسلماً، أو لم يعد مستحقاً لأن يعيش وسط المسلمين أو معهم!

(3)
وهكذا وبسقوط منهج ابن رشد وفلسفته العقلانية، سقط العقل العربي وفقد ثقته في نفسه، واستسلم للنقل والتقليد واحتكار بعض رجال الدين للحقيقة، ولم تمض على هذه المحنة التي دخلها ابن رشد إلا ثلاثة قرون حتى انتهت الأمور بسقوط الأندلس كلها، ورحيل العرب والمسلمين والإسلام عنها، ولم تكن نكبة ابن رشد نكبة شخصية بل كانت إعلاناً عن سقوط آخر ومضة تنوير أصيلة وحقيقية في تاريخ الفكر العربي والإسلامي. وبسقوطها سقط العقل العربي والمسلم في سبات طويل استمر لما يقرب من خمسة قرون كاملة، إلى أن انتبهنا واستيقظنا على أصوات مدافع نابليون بونابرت وهي تدك حصون وقلاع الإسكندرية في 1798 فيما عرف بالحملة الفرنسية على مصر (والشرق).
كان ذلك في الوقت الذي كان فيه المثقفون الأوروبيون في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا وفرنسا يكتشفون «ابن رشد» اكتشافاً، ويترجمون مؤلفاته إلى العبرية واللاتينية، ويتعمقون في قراءته وفهمه وتأويله، ويتأثرون بكتبه وأفكاره غاية التأثر ضمن جهود سيكون من نواتجها المباشرة إعلان التحرر من سلطة الكنيسة ومن سلطة رجال الدين، وتكريس مبدأ الاحتكام إلى العقل وحده في فهمهم للإنجيل، ومن ثم ظهر ما يسمى بحركة الإصلاح الديني في أوروبا التي كانت فارقة وفاصلة في انتقال القارة العجوز من القرون الوسطى إلى القرون الحديثة.
وفي الوقت ذاته نجحوا أيضاً في استعادة علاقتهم بالفلسفة والمنطق، وبالتالي نجحوا في العبور من عصور الظلام الوسطى إلى عصر النهضة الذي انتقلوا منه إلى عصر الاستنارة حيث انتهى بهم إلى هذا العصر الحديث، عصر الديمقراطية، والعلم، واحترام الحرية الفردية.. إلخ.
وهكذا، في تلك الفترة تحديداً، برزت أعمال مراد وهبة التنويرية الفلسفية وجهوده في بعث عقلانية ابن رشد وفكره من خلال مقالاته وكتاباته ومؤلفاته ومحاضراته، ونشط نشاطاً جديراً بالإعجاب في شرح أفكاره والتصدي لأفكار الإسلامويين، وظهرت أهم كتبه الموجهة لجمهور عام (وليست كتباً أكاديمية متخصصة موجهة فقط لطلاب ودارسي الفلسفة والباحثين فيها) ومنها:
كتاب «ما التنوير؟» و«جرثومة التخلف» وكتابه الأشهر في هذه الدائرة «ملاك الحقيقة المطلقة» الذي صار علماً على نقد الفكر الأصولي والفكر المتطرف والإرهابي، وصاحب أي فكر متطرف يرى نفسه ممتلكاً وحده للرأي الصحيح، ويسعى إلى تسييد هذا الرأي وفرضه ولو بالقوة، وصولاً إلى ممارسة العنف الممنهج في سبيل هذا النهج، وانتهاء إلى الإرهاب والترويع الصريح، كما تجسد في ممارسات الجماعات الدينية الإرهابية («داعش» وأمثالها).

(4)
وخلال الثلاثين سنة الماضية ارتبط اسم الدكتور مراد وهبة باسم الفيلسوف ابن رشد، ورصد غير كاتب وناقد (من أبرزهم أحمد عبدالمعطي حجازي) هذا الارتباط الفكري والدعوي التنويري بين فيلسوف العقل الإسلامي وبين مراد وهبة أستاذ الفلسفة الداعي إلى التنوير والانطلاق إلى آفاق التحرير «تحرير الوعي وتحرير الفكر وتحرير المجتمع.. إلخ»، فكلاهما كما يرى عبدالمعطي حجازي: شقيقان. يتكلمان لغة واحدة، وينتميان لثقافة مشتركة وتاريخ مشترك. ومع أن مراد وهبة بينه وبين ابن رشد ثمانية قرون [كاملة]، فالواقع الذي عاشه الفيلسوف المصري شبيه جداً بالواقع الذي عاشه الفيلسوف الأندلسي. علوم الأوائل التي درسها ابن رشد، وهي علوم اليونان، درسها مراد وهبة. وكما اشتغل ابن رشد بشرح أرسطو، اشتغل مراد بشرح برجسون وكانط.
وكما تصدى ابن رشد لفقهاء المالكية، تصدى مراد وهبة للأصوليين وجماعات الإسلام السياسي. وكما نفي ابن رشد وأحرقت كتبه فصل مراد وهبة من عمله في الجامعة، ومنع من التدريس عامين. وكما انتقد ابن رشد الغزالي ورد على «تهافت الفلاسفة» بكتاب «تهافت التهافت» سخر مراد وهبة من الأصولیین وسماهم «ملاك الحقيقة المطلقة»! وكشف عن خلطهم بين الحقائق والقوانين الثابتة وبين الظواهر والحوادث المتغيرة. وهو الخلط الذي يفسد الحياة كلها لأنه يصادرها ويجمّدها ويفرض عليها ألا تتغير وألا تتطور، فكل شيء في زعم الأصوليين معروف سلفاً [ومقرر سلفاً]! لقد كان مراد وهبة في مقدمة من نادوا بضرورة اكتشاف ابن رشد، إنه ليس مجرد ماض وانتهى، وإنما هو حاضر حي مستعد لخوض المعركة الفكرية إلى جانبنا، وقادر على كسبها لو أفلحنا في استعادته وأفسحنا له الطريق، لأن معركتنا هي استمرار لمعركته مع الأصولیین.
وفي هذا السياق بادر مراد وهبة فكتب في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي بحثاً عن ابن رشد ألقاه في المؤتمر الدولي الأول للفلسفة الإسلامية، وانتهى فيه إلى المفارقة المتمثلة في أن ابن رشد الفيلسوف العربي ميت في بلاده حي في الغرب! وقد أصدر مراد وهبة هذا البحث في كتاب سماه «مفارقة ابن رشد»، ثم واصل اكتشافه في المؤتمر الذي اقترح عقده تحت عنوان «ابن رشد والتنوير»، وبعد ذلك في المؤتمر الذي أقيم احتفالاً بالذكرى المئوية الثامنة لرحيل ابن رشد، وصدرت دراسات وبحوث المؤتمر في مجلد ضخم بالعنوان ذاته.
والحديث عن مراد وهبة يطول ويمتد.. وبالتأكيد سيكون له مُتصل آخر في مناسبة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©