محمد عبدالسميع
هل لا يزال عقل الطفل ووجدانه بانتظار ثيم وأفكار جديدة في الفنون والآداب، بعد أن وصل إلى تخوم جديدة واكتشافات تكنولوجية هائلة في ما يتصفحه يوميّاً ويعيشه لحظةً بلحظة؟!
وإذا كان هدف الثقافة الإبداعية في الفن والأدب ضَخُّ ما نستطيع ضخَّهُ من أفكار وقيم وثقافة إنسانية، وتحديداً للناشئة من أبنائنا، فإنّ «مهرجان الإمارات لمسرح الطفل السابع عشر» الذي أُقيم في الشارقة، كان نموذجاً على رسالة ذكية وتجسيد مدروس وخطاب واعٍ استطاع أن يصل إلى وجدان وعقل الطفل، ليجعله إذا كان من محبي المسرح مفطوراً عليه، ويؤلّف قلبه عليه، إن وجد فيه ما يحقق طاقته الإبداعية في الفكرة والخيال والتمثيل، نحو جيلٍ يشكّل في القريب المسرحيّ عنصراً إضافيّاً لقطاع المسرح والفنون في الدولة.
بدايةً، قامت على تنظيم المهرجان، الذي جاء برعاية ودعم سخي من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، جمعية المسرحيين، باعتباره مهرجاناً يمثّل دولة الإمارات العربية المتحدة، وشاركت فيه فرق مسرحية عديدة مثّلت هذا الجانب، فكان لابدّ للأعمال أن تترجم الإطار النظري العام في رسائل تعزيز الثقة بالنصّ وحبّ الاستكشاف وتنمية الخبرات وإثراء الأذواق وطرائق التلقي لدى الطفل، وأيضاً لدى المهتمين والمختصين بتقييم مهرجانات مسرح الطفل والتأريخ لكلّ دورةٍ من دوراته.
وفي جولة على معطيات المهرجان، في دورته الحالية، باعتبارها دورةً ناضجةً بعد هذا العمر المسرحي الطيّب له، فإنّ الاشتغالات والنصوص كانت منسجمةً إلى حدٍّ بعيد، كاشتغالات محفّزة للحضور من الأهالي والأطفال، وأيضاً في ظلّ تنافس الأعمال والفرق المسرحية تنافساً إبداعيّاً انعكس على جودة الأعمال في النهاية، وما تم تناولته من مواضيع شكّلت بستاناً ثريّاً من أزهار المسرح وحكاياته وتوليفاته ودروسه التي لم تكن بعيدةً عن خلق الجوّ الإبداعيّ، وفي الوقت نفسه لم تكن منغلقةً أمام إحساس الطفل، كإنسان يتابع وتتفتح له نوافذ وطاقات في ما يرى ويسمع من مصادره المعرفية والجمالية، من العائلة والمدرسة والأصدقاء، بل ومن هذا الفضاء الأزرق المفتوح.
حضور الأسطورة
وجاءت حكايات العروض بشكلٍ تلقائيّ، خفيفة الوقع وغير ثقيلة الظلّ، في محاولات التنويع القصصي والحكائي والتوجه لآفاق جديدة، من مثل دخول عالم «الفضاء»، على هذه العروض، بما فيها من ابتعاد عن المكرور وامتحان للكفاءات والقدرات الإخراجية وكتابة النصوص واستلهام أفكارها، حتى من الطفل نفسه في بعض الأعمال.
ولقد حضرت «الأسطورة» في المهرجان، ولكنها ليست الأسطورة التي يتشظى لها قلب المشاهد فيتعقّد، بل الأسطورة الرائعة الملونة بعالم الفرح والتشويق وانتظار النهاية أو توقّعها، أو تقمّص الشخصية في كلّ مدى العرض الزمنيّ ومجاله البصري وحواراته. وقد استطاع الكتّاب والمخرجون بتفهّمهم للأسطورة التي هي «الخيال» بشكلٍ أو بآخر، ارتياد الجزر والكواكب والبلدان البعيدة، فخلقوا أجواء مناسبة وشائقة، من حيث كل عناصر المسرح الفنية في الأزياء والمؤثرات الصوتية والكوميديا الحوارية، واللهجات التي كانت تتخلل بعض العروض، عن رؤية واثقة، بإدماج المتلقي وجعله يضحك من القلب.
كما جاءت الثيم والأفكار لتعزز بمجملها، معاني الفرح والمحبة والسلام والتعايش والعطاء والاتحاد وحبّ الوطن والدفاع عنها والحزن في الغربة عن ربوعها، وكذلك عدم الأنانية، والثقة في النهاية بانتصار الخير على الشر.
وإذا كان البعض يتخوّف في مسرح الطفل من التعقيد في متابعة الأحداث والتفاعل معها، بما يشتت عقل المشاهد، فإنّ حرصاً من المخرجين على ألا يتركوا نهايات الأعمال مفتوحةً على التفسير أو التأويل، لأنّ الطفل في اعتقاده دائماً وأبداً أنّ الخير لابد سينتصر على الشرّ، وأنّ الأحزان لن تدوم خلال وقت العرض، ومن هنا فقد كانت الأعمال بمجملها تسعى نحو إسعاد الطفل وجعله مشاركاً في الأحداث.
لوحات سينمائية
وكان الطفل في مهرجان مسرح الطفل السابع عشر، وجداناً متحركاً ومتلهفاً على أحداث جديدة داخل العمل المسرحي، فلم يكن ليرضى بالبسيط الساذج من التوليفات القصصية أو الإخراج البسيط المستعجل، أو السينوغرافيا الباهته أو الغناء الشاحب المتكلّف تعبيراً عن الفرح أو الحزن. فحضرت اللوحات السينمائية كحاضنة للشرح وصور الكواكب البعيدة، في بعض الأعمال، وكانت بعض المشاهد حيّةً ألغت المسافة التي تستعجل بها مهرجانات مسرح الطفل الوقت والجهد، فكان من الطبيعيّ هذا الحضور الوافر للمسرحيات على مسرح قصر الثقافة بالشارقة، بل ومناقشة الأعمال من الأطفال أنفسهم بعد العرض.
كما كانت الأزياء ضاجةً بالحركة، وخصوصاً في إبراز سكان الكواكب الأخرى أو المخلوقات العجيبة، كالديناصورات مثلاً، باعتبار الأزياء عنصراً ناطقاً بالحركة يشدّ المتلقي الطفل إلى جوّ العرض لمتابعته والتفاعل معه.
فكرة«المريخ»
وتجسّدت الأفكار أعلاه بالأعمال التي سنمرّ عليها تباعاً، كنماذج في هذا المهرجان. ونبتدئ بعرض الافتتاح لفرقه «دبا للثقافة والفنون والمسرح»، من خلال عرض مسرحيه «العالم الآخر»، التي كانت الرحلة فيها فكرةً جميلةً ورائقةً للطفل والأهالي في متابعة شقيقين يزوران كوكب «المريخ» عن طريق نظارةٍ افتراضية، لتجري الوقائع ما بين الكوميديا والمعلومات العلمية والإحصائيات، في ظلال حوارات لم تخلُ من إضحاكٍ مقصود، في مقاربات اللهجة وعلاقتها بالفصيح.
لقد كانت فكره «المريخ» تتساوق مع رؤية دولة الإمارات في «مسبار الأمل» والاكتشافات وبلوغ آماد جديدة في ذلك، فكان العرض يحمل هذه الفكرة ويجسّدها محافظاً على شروطها الفنية وعدم انقطاع حواراتها أو فقراتها، فلم تكن فكرة المريخ هذه بعيدةً عن فكرة «جزيرة القمر»، كمسرحية قدّمها «مسرح خورفكان للفنون»، بما جبل عليه عقل الطفل ووجدانه من معنى الجزيرة، كمنطقة جغرافية تدور حولها الحكايات، خصوصاً إذا ما تلازمت هذه الفكرة مع «القمر»، هذا الذي له في متخيّل الطفولة المعنى الكبير والرائق، لتكون الأسطورة هي ذاتها، لكن بمعالجات جديدة ومبتكرة، إذا ما علمنا أنّ التشويق هو رائد أيّ عملٍ مسرحيٍّ للطفل، حيث كان «الحجر المضيء» حافزاً وبشدّة على متابعة حكاية القوة المتضمنة في هذا الحجر الذي يُسعد الناس ويعطيهم ميزات إضافيةً حين يسقط من السماء على هذه الجزيرة، وبالطبع فإنّ الأحداث لا بدّ لها أن تستمرّ في محاولة سرقة هذا الحجر.
دور «الحكيم»
وقد جاء وجود «الساحر» في الوقت ذاته، كقوّة شريرة ترغب بالاستيلاء، ليتمكّن «الحكيم» من إحباط ذلك، وتعود الأمور إلى ما كانت عليه من الخير والفرح والتألق. كما ظهر «الحكيم» في غالب العروض المسرحية كنقيضٍ للشرّ، وكمصدرٍ للتصرّف الصحيح، وكقوّة ذهنية بُنيتْ على تجارب عديدة، فهو مُطاعٌ وصاحب احترام وتقدير. و«الحكيم» هذا، هو من أساسيات الحكايات والأساطير التي درج عليها العديد من الأجيال، في تلقي هذه الثيم البسيطة ومن ثم البناء عليها في ما بعد، في أعمال أدبية وفنيّة، منها المسرح «أبو الفنون».
وكقيمة وطنية مهمّة، حضرت «الأرض» بكلّ جمالها وانتماء أهلها إليها، وأيضاً هذه المرّة بالقياس إلى الكوكب الآخر البعيد، المملوء بالمغامرات وشغف السؤال، حيث تقوم الفتاة «جوهرة» التي تسمَّت المسرحية باسمها «جوهرة الأرض»، من تقديم فرقة مسرح الفجيرة، بالدفاع عنها أمام الغزاة وفق مجريات الأحداث أمام «كسّار» الذي له من اسمه نصيب، ليكون الارتباط بالأرض سبباً في الحفاظ عليها، وتظهر في ذلك تقنيات الدفاع التكنولوجية والاتصالية، كأسلحة غير تقليدية للأجيال.
كما حضر «المكان» والأسئلة الدائرة حوله، في التشويق بالسحر ومتعة اكتشاف «الشبح» الذي يسكن هذا المكان، كثيمة قديمة عالجها الكاتب والمخرج بجعل السكان الجدد أقوى من هذا «الشبح» الذي حمل معنىً طريفاً تحت مسمى «الشبح الظريف» كعنوان للمسرحية التي قدمتها فرقة مسرح الشارقة الوطني، ليقرر «الشبح» في النهاية مغادرة المكان. وقد طرحت المسرحية قيمة التعايش والاعتماد على الذات في مواجهة الظروف.
«الكناغر»
من الأعمال ما عالج فكرة الاختلاف السلبي الذي يؤدي إلى ضعف الجماعة، كما في مسرحية «الكناغر»، التي قدمتها فرقة مسرح دبي الأهلي، والتي أكدت أهمية المحبة والتفاهم أمام الأخطار، خاصةً حين يتعرض الكنغر الكبير إلى مضايقات من مجموعته، فيضطر للمغادرة، لتلحق به الكنغر الصغيرة، فيقع الاثنان في شِباك الصيادين، مع حلّ عقدة المسرحية في النهاية بتحرير الكنغرين والاستفادة من الدروس.
ولم تكن المدينة الزاهية بالألوان والمتخيَّلة في ذهن الطفل بعيدةً عن العروض، كما في مسرحية «المبدعون» التي قدّمتها فرقة جمعية ياس للثقافة والفنون والمسرح، والتي بثّت قيمة الدفاع عن الأرض وحمايتها من الغزاة، بحضور «الحكيم» الذي ظهر في أكثر من عرض في المهرجان، وهذه المرّة كان ذكيّاً في طرح اللغز المؤدي إلى اجتماع السيوف الخمسة من مدن متفرقة، لطرد الغزاة، بما يحمله اللون والسيف من دلالة جميلة تناسبت مع تفكير الطفل الشغوف بالوطن والبطولات والانتصارات.