الفاهم محمد
جاك ديريدا 1930- 2004 أحد أكبر الفلاسفة الفرنسيين الذين نالوا شهرة عالمية، حيث كان له تأثير كبير ليس فقط في المجال الفلسفي، بل أيضاً في مجالات أخرى على رأسها النقد الأدبي.
خرج من تحت عباءة مارتن هيدغر وفريدريك نيتشه، كي يدفع ببعض أفكارهما نحو اتجاهات قصوى. غالباً ما ينظر إلى جاك ديريدا باعتباره الفيلسوف المشاغب، الذي يقوم بتفكيك كافة الأنساق المعرفية والأدبية، من أجل تقديم فلسفة مغايرة تماماً لما هو معروف.:«شيء لم يتمكن من تقديم نفسه في تاريخ الفلسفة». تعتبر فلسفته واحدة من أعقد المنظومات الفلسفية التي يصعب فك شفرتها. فقد دفع بالقول الفلسفي نحو أقاصي غير منتظرة، اختلط فيها المعنى واللامعنى، لدرجة اعتبره بعضهم كسفسطائي معاصر. كما عده بعضهم الآخر كأحد كبار ممثلي الشك المابعد حداثي.
يهودي الأصل، ولد في الجزائر، ثم انتقل للعيش في فرنسا، حيث سيصبح لاحقاً مدرساً في جامعة السوربون. وبعد ذلك محاضراً في جامعة جون هوبكينز الأميركية، ثم في جامعة ييل. ذاعت شهرته العالمية بفضل مجموعة من الكتب نذكر منها: في علم الكتابة، والكتابة والاختلاف، والصوت والظاهرة.
الفكر الغامض
كيف يمكن إذن الاقتراب من هذا الفكر الغامض والمتاهي، الذي يدعي أنه سيقوم بمراجعة شاملة للميتافيزيقا الغربية؟ في البدء كانت الكتابة إذا كانت البنيوية كما تبلورت مع دوسوسير ورومان جاكوبسون، قد حاولت أن تقدم نفسها باعتبارها دراسة علمية موضوعية للغة، كما لو أن هذه الأخيرة نسق خاضع لقوانين ثابتة. فإن ديريدا على العكس من ذلك، تنتمي فلسفته إلى تيار ما بعد البنيوية. بالنسبة له تظل اللغة ظاهرة غير مستقرة، مليئة بالاختلافات والمفارقات، وما هو غير قابل للتقرير، أو الإحصاء والتسمية.
بالنسبة لديريدا تبرز الدلالة ليس لأن هناك ذات تسعى إلى مثل هذه القصدية. بل إن الدلالة تخلق لأن الكلمات في حد ذاتها تنطوي على معانيها الخاصة. وهكذا فاللغة تظل قادرة على أداء أدوارها رغم غياب المتكلم، بل وغياب المرسل إليه. إن الكتابة إذن سابقة على الكلام، وليس العكس كما يعتقد غالباً. تماماً كما أن الإنسان يحمل تلك الكتابة البدئية في جيناته، أي المعلومات المتضمنة في حمضه النووي، قبل أن يتمكن من النطق والكلام.
يتجاوز ديريدا المنظور الثنائي الذي هيمن على اللسانيات السوسيرية، فهو يعمل على التركيز أكثر على الكتابة بدل الصوت، الذي ظل دائماً يحيل في الفلسفة الغربية على الحضور. لقد ظلت الكتابة على الدوام محتقرة في الفكر الغربي، ومستبعدة لصالح الكلام. فوظيفتها لاحقة للصوت، أو هي إضافة ثانوية له، بحيث تترجم العمل الأساسي الذي يقوم به الوعي.
لقد سمحت هذه الطريقة في تناول اللغة لديريدا من تجاوز المركزية الصوتية، التي يسميها أيضاً بميتافيزيقا الحضور، التي فضلت دائماً الوجود على العدم، والآني على المؤجل، والقريب على البعيد. رغم أن هناك انتقادات كثيرة وجهت له، بخصوص هذه النظرة المتعالية للكتابة، إذ اعتبرها بعضهم كنوع من أنواع التصوف أو اللاهوت الفلسفي.
التفكيك كاستراتيجية إذا كان لكل فيلسوف منهجية محددة اشتهر بها داخل تاريخ الفلسفة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: الجدل الصاعد بالنسبة لأفلاطون، والفينومينولوجيا بالنسبة لهوسرل، والجينيالوجيا عند نيتشه... فإن المنهج الذي عرف به جاك ديريدا هو التفكيك، وإن كان فيلسوفنا قد رفض اعتبار التفكيك منهجاً على غرار المنهج الديكارتي الخاضع لقواعد محددة، بل هو في نظره استراتيجية، وممارسة قرائية مفتوحة. أو هي عبارة عن:«خلخلة وتفكيك لكل المعاني، وبالخصوص معنى الحقيقة». يتعلق الأمر بمفهوم تعود جذوره الأولى لفلسفة أستاذه هيدغر، إلا أن ديريدا يعمل على توظيفه بمعاني مغايرة. يدل التفكيك إذن على طريقة في قراءة النصوص الفلسفية والأدبية، بالشكل الذي يكشف عن تناقضاتها وما تخفيه داخلها، طريقة تعيد الحياة للنصوص، وتكشف عن إمكاناتها أو لا مفكرها، وإماطة اللثام عن إحراجاتها.
الدلالات الخفية
بطريقة أخرى يسعى التفكيك إلى استنهاض الدلالات الخفية في النصوص، وفتح المعاني على التعدد والكثرة، بل وجعل المعنى الكلي في حالة إرجاء دائم. وبهذا تصبح الفلسفة بحد ذاتها مغامرة فكرية، مفتوحة على الاستفهامات اللامتناهية. لهذه الأسباب يجيب ديريدا في رسالته للصديق الياباني، محدداً مفهوم التفكيك قائلاً: ما الذي لا يكون التفكيك؟ كل شيء ما التفكيك؟ لا شيء مغامرة الاختلاف أسس جاك ديريدا فلسفة تقع على النقيض من الفكر الميتافيزيقي، الذي ميز تاريخ الفلسفة الغربية. فإذا كانت الميتافيزيقا قد حاولت أن تقيم علماً نسقياً، يحيط إحاطة شامة بالوجود. فإن ديريدا على العكس من ذلك، بنى فلسفته كمغامرة للاختلاف الذي يتجاوز النسق، وجعل رحلة البحث عن الحقيقة مفتوحة على اللانهاية. إن مهمة تفكيك وتجاوز الميتافيزيقا عمل شاق، إذ لا يمكننا القيام بها بجرة قلم، وهذا هو ما دفع ديريدا إلى مراجعة التراث الفلسفي باستمرار، مقيماً في العديد من النصوص التي تعود لأسماء شهيرة مثل افلاطون، أرسطو، هيدغر وروسو... لقد كان شعاره في ذلك:«لا يوجد شيء خارج النص» وهي جملة أثارت الكثير من السجال، اذ يوحي ظاهرها أن ديريدا مثل البنيويين، الذين يريدون الاكتفاء بالبقاء داخل النصوص. غير أن ما كان يقصده ديريدا بهذا القول، هو غياب مرجعية واقعية ثابتة وواحدة، يمكن للجميع الاحتكام إليها. من هنا يصبح الاختلاف هو لعبة تعدد المعاني والدلالات، وتشتت التأويلات، والارجاء الدائم للحقيقة. نوع من التيه الذي لا يخضع لأي منطق، بل فقط لصدفة الاحتمالات.
تنطوي كلمة الاختلاف بالفرنسية على العديد من الدلالات، التي يعمل دريدا على استثمارها في فلسفته، ففي الكلمة هناك تأجيل وتأخير ومغايرة، هذه المغايرة التي تكون السبب الأساسي في خلق المعاني، ما دام أن الكلمات والعلامات المتطابقة، لا يمكن أن تقودنا إلى إبراز معاني جديدة.
تجاوز الميتافيزيقا
هكذا يعمل ديريدا على تجاوز الميتافيزيقا، التي هيمنت على تاريخ الفلسفة، وصنعت الحضارة الغربية. وديريدا يفهم الميتافيزيقا باعتبارها ذلك الفكر الذي يقوم على النسق المغلق، والتطابق والثبات، وهي كلها معاني أسهمت في تأسيس وهم التمركز الحضاري الغربي، وادعاء تفوقه واستعلائه على باقي الحضارات. كما سبقت الإشارة يسمي ديريدا هذا النزع من التفكير بميتافيزيقا الحضور، أي ذلك الفكر الذي لا يستمع إلا إلى ذاته، في اكتفاء جواني لباطنه، مستبعداً كل ما هو خارجي، ومعتبراً أنه منبع الحقيقة وموطنها الأوحد.
وقد ينظر بعضهم إلى جاك ديريدا كرجل يقبع داخل النصوص، كما لو أن فلسفته لا تنفتح على الواقع، بل هي مكرسة فقط لتجاوز الميتافيزيقا. لكن هذا غير صحيح بتاتاً، فقد خصص في أواخر حياته مجموعة من الكتب التي عملت على ملامسة قضايا اجتماعية شائكة، مثل ظاهرة الإرهاب وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، ومسألة التسامح والصفح، وأيضاً قضية الضيافة، ومسألة الآخر والعنصرية، بل إنه قام بتقديم مساءلة لراهنية الماركسية في كتابه أشباح ماركس، لكن رغم أهمية هذا المنعطف السياسي والأخلاقي في مسيرته الفكرية، إلا أن إسهامه الأساسي، يظل مرتبطا بالمراجعة الجذرية التي قام بها للميتافيزيقا الغربية.