نوف الموسى (دبي)
أكاد أختلف تماماً مع آلية المعالجة المسرحية للمخرج والمؤلف عبدالله المهيري، في مسرحية «أبد الدهر» التي قدمها مسرح دبي الأهلي، ضمن فعاليات مهرجان دبي لمسرح الشباب 14، وما أعنيه بالآلية هي الكيفية التي ناقش بها موضوع جانب من الموروث الاجتماعي القائم أحياناً على بعض الصور النمطية والأحكام المسبقة على الأشخاص، بناءً على هويتهم الشخصية، وانتماءاتهم العائلية، المرهونة بمفهوم «المكانة الاجتماعية» وما تشكله من تحديات، قد تعيق الأفراد أحياناً عن تحقيق خياراتهم الحياتية ومعايشة رغباتهم واحتياجاتهم الإنسانية. ومن ذلك مسألة «الزواج» -مثلت موضوعاً رئيسياً في العرض- وحالة الرفض التي قد يواجهها الرجل، عندما لا يقبل به أهل الفتاة أو العكس، وفقاً لمبدأ الأصل والفصل، ليقدم العرض المسرحي، سيرورة بعض تلك المعتقدات المجتمعية والأنماط المتوارثة القديمة، وكيف أنها قد تبقى أبد الدهر، ما يوحي بأنه أمر يصعب تغييره أو حتى تجاوزه.
واختلافي هنا ليس على مستوى الموضوع، فإنني موقنة تماماً بأزلية الأحكام البشرية، وأزمة الإنسان الكبرى أحياناً مع هويته الشخصية والمجتمعية، إلا أن السياقات الاجتماعية للحوارات المسرحية التي رسمها المخرج في حقب زمنية مختلفة بين ماضي المجتمع وحاضره، تكاد تكون غير متسقة مع المتغيرات الفعلية للبيئة الثقافية والتشريعية والاجتماعية. ولتوضيح هذه الفكرة بشكل مبسط، أنه على رغم المعضلات العديدة التي واجهتها المرأة، فيما يتعلق بموضوع الزواج تحديداً، إلا أن هناك العديد من الأنماط القديمة في السلوك والتفكير واتخاذ القرارات المصيرية مثل العمل والزواج، استطاعت المرأة وبشكل نسبي تجاوزها، إلى جانب الحراك التشريعي أيضاً، الذي يعطي المرأة حق الزواج بأمر من المحكمة، في حالة أنها ارتضت زوجاً مناسباً، لم يقبل به الأهل «ولي أمرها» دون سبب واضح، وهي بمثابة دلالات عامة على التحول في الإمكانية المجتمعية لتقبل الانفتاح على مفهوم الزواج بأبعاد تتجاوز النسب والحسب.
ولكن السؤال الفعلي: هل يستطيع سواء الرجل أو المرأة في مسألة اتخاذ قرار الزواج أن يتحمل مسؤولية المواجهة المباشرة مع أحكام الأسرة والمجتمع، والتي قد تنتج عنها خسارات لعلاقات رئيسية في حياة الإنسان وتحديداً والديه، فهذه مسألة أخرى، ليس المجتمع معنياً بها -على رغم امتلاكه لسطوة العرف والتقاليد- بقدر ما هي خيارات الإنسان نفسه كذلك، فهو صاحب القرار. ولا يمكننا إغفال نقطة مهمة أنه لا يمكن للإنسان أن يحكم على مجتمع ما، من منطلق أنه كتلة واحدة صماء، فهناك بالتأكيد في المجتمع نفسه، من سيقف مع حرية الخيارات وحق ممارسة الفرد لقراراته الشخصية.
ومن بين الملاحظات المهمة في مسرحية «أبد الدهر»، استخدام جو مشحون يكاد يكون قريباً من الحدّية «المادية» من خلال التكسير والهدم، و«المعنوية» عبر الأحاديث والإشاعات المغرضة في تناول القضية المجتمعية، في بيئة بحرية ساحلية، تمثل أكثر البيئات المحلية قابلية نحو الانفتاح على الآخر، ما يجعل القضية المسرحية ممكنة الحدوث، بصيغة أقل حدِّية، وأكاد أفهم كيف أن بعض الرجال بطبيعتهم يُعبِّرون عن حالة من الرفض، عندما يتم رفضهم، بتجهّم كبير يعكس مخزوناً مهولاً من الغضب ورغبة السيطرة على الموقف ككل. وربما أود أن أتعاطف قليلاً مع العرض المسرحي، رغم مبالغته التي تكاد تكون مفرطة أحياناً في قساوة الطرح، وأميل لحاجة الشباب أحياناً نحو تفريغ إحباطهم ويأسهم في كثير من الأحيان، من خلال الأعمال الإبداعية، وبالنسبة لي فإن الأمر صحي جداً، وربما يجعلنا أحياناً كجمهور نتساءل عن كيفية مساعدتهم والبحث معهم عن طرق ومآلات جديدة للتعامل مع بعض تحديات الموروث، غير المنسجمة مع المتغيرات العصرية.
وفي مسرحية «أبد الدهر» تبدأ المواجهة بين شخصية «عويش» التي قدمتها الممثلة عذاري السويدي، وبين شخصية «فهد» التي قدمها الممثل خالد حسين، بعد أن رفض «أبو فهد»، تزويج ابنه من «عويش» لأن والدتها «مرايم» تعمل في مجال إحياء الأعراس، واصفاً هذا المجال بأنه مهنة غير ملائمة، ولا يليق بهم هذا النسب، وفي الوقت ذاته يكتشف «فهد» أن أباه كان يحب والدة حبيبته، بل وترك والد «عويش» يموت أمامه عمداً، في إحدى رحلات الغوص قديماً، ليظفر بـ«مرايم»، إلا أن خيار «أم عويش» -قدمت الشخصية الممثلة أمل حسن- تمثل في أن تتحمل مسؤولية أبنائها «جسوم» و«عويش»، حيث توفر لهم حياة كريمة، من خلال مهنتها «غير المقبولة مجتمعياً» وفق بعض الصور النمطية، والتي تسببت في تهميشهم، من الأقرباء وأبناء العمومة، خاصةً بعد وفاة والدة عويش «مرايم»، لتقرر بعدها «عويش» الهروب، والزواج برجل يصونها ويحميها بعيداً عن بيت العائلة والحي الذي ولدت وعاشت فيه.
ومن الاستشفافات المهمة أيضاً التي قد يتوصل إليها المتابع العام لمسرحية «أبد الدهر»، أن على العروض المسرحية الشبابية أن تساهم بشكل ما في رسم احتمالات جديدة أقرب ما تكون إلى «حلول» إخراجية -لا أقصد بها تقديم إجابات مباشرة للجمهور- حول كيفية التعامل مع تلك الإشكاليات الجوهرية وحلها في المجتمع، وإنما إضفاء عنصر «الدهشة»، الذي كان مفقوداً تماماً في العرض، فالسرد المسرحي في «أبد الدهر» كان واضح المعالم. ونقصد بالدهشة هنا أن يمرر المسرحيون الشباب رسائل وملامح عابرة بجمالية تهدي المتلقي بعداً واسعاً لرؤية مغايرة يرى بها نفسه والمجتمع من حوله، فمهمة المسرحيين الشباب تختلف عن مسارح الرواد في أن بمقدورهم العمل بحالة فيها مرونة أكثر وقدرة على بناء وعي جديد، وليس فقط عرضاً لما قد يكون موجوداً فعلاً!