الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«باومان»... من الحداثة الصلبة إلى الحداثة السائلة!

«باومان»... من الحداثة الصلبة إلى الحداثة السائلة!
19 أكتوبر 2023 02:11

الفاهم محمد
يعتبر زغمونت باومان (Zygmunt Bauman) 1917-1925 أحد ألمع علماء الاجتماع والفلاسفة المعاصرين. فهذا المفكر استطاع وصف وفهم العديد من التغيرات الاجتماعية والقيمية، التي تميز عالمنا المعاصر. وإليه يعود الفضل في تأطير هذه التغيرات، ضمن مفهوم يرتبط خصيصاً باسمه، هو «السيولة» The Liquid والمقصود بها التفكك والذوبان، الذي يطال معظم الأنظمة الفكرية والاجتماعية التي عرفناها سابقاً، والتي ربما أصبحنا نتذكرها اليوم بنوع من الحنين الرومانسي، نظراً لكوننا لم نعد قادرين، أحياناً، على الثقة في المستقبل. وباومان مفكر بولوني من أصول يهودية، وقد هاجر خلال صغره إلى الاتحاد السوفييتي هرباً من الاضطهاد النازي، ثم انضم بعد ذلك خلال شبابه إلى الجيش البولندي، كما شارك في عملية تحرير برلين خلال الحرب العالمية الثانية. وأصبح فيما بعد متخصصاً في الدراسات الاجتماعية، حيث قدم دروساً في السوسيولوجيا في جامعة وارسو. وبعد طرده من الحزب الشيوعي، سافر بداية إلى تل أبيب لتدريس الفلسفة وعلم الاجتماع، قبل أن يستقر به المقام في بريطانيا كأستاذ في جامعة ليدز.
كتب وأعمال
ألف زيغمونت باومان العديد من الكتب نذكر منها: الحداثة السائلة 2000، والحداثة والهولوكوست 2002، والحب السائل 2003، والحياة السائلة 2006، والخوف السائل 2006، والمراقبة السائلة 2013، والشر السائل.. العيش مع اللابديل... وعن طريق هذه الأعمال تمكن باومان من تجاوز علم الاجتماع التقليدي، ووصف حالة عدم الأمان واللايقين التي قد تحول بيننا وبين التحكم والتنبؤ بسلوك المجتمع، كما هو الأمر عند أوجست كومت ودوركهايم.
وقد فاز باومان بعدة جوائز عالمية أبرزها جائزة أمالفي الأوروبية سنة 1992، ثم جائزة تيودور أدورنو سنة 1998، وجائزة أمير استورياس مناصفة مع الفرنسي ألان تورين سنة 2010.
من الحداثة الصلبة إلى الناعمة
لا يمكن أن نفهم المقصود بحالة السيولة التي نعيشها اليوم في رأي باومان، إلا من خلال مقارنتها بمرحلة الحداثة الظافرة، التي تأسست ما بين القرنين 16 و18. فقد قدمت هذه الحداثة نفسها باعتبارها مشروعاً حضارياً كبيراً، يغطي جميع المجالات الفكرية والعلمية والاجتماعية. مبنية على أسس ومبادئ متينة، بحيث تمنح للإنسان كامل الثقة في التحكم في حاضره ومستقبله.
غير أن هذا الزخم الذي عاشته الحداثة الكلاسيكية، باعتبارها تمثل حالة الكمال للوضع البشري سرعان ما سيتحطم على أرض الواقع خلال بداية القرن 19. وبومان يصف المرحلة الجديدة بالحداثة السائلة بدل مفهوم ما بعد الحداثة الشائع، حيث يجعل من هذا المفهوم، أي السيولة، إطاراً لفهم الواقع المتغير الذي نعيشه. إنها مرحلة على العكس من سابقتها، تمثل حالة من الحيرة والتيه واللايقين، إذ كل شيء يتغير من حولنا باستمرار إلى درجة أضحى معها: «التغيير هو الثبات الوحيد» (الحداثة السائلة - ص 27). 
البصيرة الكلية
لقد ذابت وتفككت، في رأي باومان، كل النظم الصلبة، فلا السياسة قادرة على التحكم في قراراتها، حيث تم إفراغها في بعض الحالات من مضمونها السياسي الحقيقي، كي تتحول إلى مجرد جهاز إداري. ولا المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية تتمكن بدورها من الحفاظ على استقرار الحياة وتوازنها. كما غاب التخطيط الاستراتيجي للمستقبل، كي يحل محله نوع من الأفعال المحدودة في الزمان، والتي قد تفتقد إلى البصيرة الكلية لما يتجه إليه المجتمع. بل إن باومان يذهب إلى حد اعتبار أن الهولوكوست الذي وقع إبان فترة النازية كان نتيجة طبيعية لسيرورة الحداثة، وللبحث عن الحلول النهائية، كشكل من أشكال عمل البيروقراطية. وقد تنبأ باومان بإمكانية تكرار الابادة الجماعية للبشر وهو ما تحقق بالفعل في العديد من مناطق العالم ما دام أن هذا الفعل الإجرامي لم يكن استثناء، بل صدر عن أناس ينتمون لمؤسسات سياسية واجتماعية معروفة.

العولمة المتوحشة
في نظر زيجمونت باومان ساعدت ظاهرة العولمة التي نعيشها حالياً على المزيد من استفحال هذا الوضع. فالمجتمع المفتوح الذي نظّر له كارل بوبر تجاوز كل التوقعات. إن كل سعادة أو شقاء يعيشه أناس في أقصى بقاع الأرض، يمكن أن نطلع عليه عبر القنوات الفضائية، أو عبر الوسائط الاجتماعية. وهذا معناه أننا أصبحنا نعيش حالة من التأثير والتأثر المتبادل فـ«ما من سعادة في مكان ما، بريئة من شقاء في مكان آخر» (الأزمنة السائلة - ص 30). 
وهكذا عندما نتحدث عن العولمة فنحن نتحدث عن زوال الحدود، وتقلص حدود السيادة الوطنية أحياناً، وانتشار العنف والإرهاب، والتعصب الديني، والتجارة في الأسلحة، وتعزيز التبعية، حيث قد يصبح المجتمع في نهاية المطاف، في مواجهة قوى غامضة غير قادر على مواجهتها أو التحكم فيها. وباختصار يطلب منا باومان ضرورة تجاوز هذه العولمة السلبية، عبر العمل على ترشيدها، ومواجهة هذا الإضعاف الذي تمارسه قوة الرأسمال، في تفكيك وحل جميع الروابط الاجتماعية.
نتائج فريدة
وكما هو الوضع الذي نعيشه نوعي وخاص، فإن النتائج المترتبة عليه تظل أيضاً فريدة وغير مسبوقة كذلك. لقد وصلنا إلى وضع بشري مدهش ومستفز للفكر. فالعالم الذي نعيش فيه يتغير بشكل سريع، بحيث لا نستطيع لا اللحاق به، ولا امتلاك القدرة على فهم متغيراته. إن ميزة السيولة تشمل جميع مظاهر الحياة. إذ لا شيء يمكن الحفاظ عليه باعتباره مبدأ ثابتاً، بما في ذلك هويتنا وأخلاقنا ومشاعرنا. ويؤكد باومان أننا اليوم نعيش تحت ضغط هائل لسلطة التغيير والانحلال الكلي، وهذا ما ينعكس حتماً على وعينا وهويتنا الشخصية، وإنه بسبب هذا التغيير نعيش حالة من: «عدم الاكتمال غير القابل للشفاء لمهمة تعريف الذات مما يسبب الكثير من التوتر والقلق، وليس ثمة علاج لذلك النوع من القلق» (الأخلاق في عصر الحداثة - ص 31).
أزمة الهوية
لقد كانت لأزمةِ الهوية الشخصية هذه انعكاسات خطيرة على المشاعر الإنسانية. ففي عالم أضحى كل شيء فيه عابراً وآيلاً للزوال، حيث فقَدَ الحب بدوره أحياناً ديمومته كتجربة إنسانية عميقة، لم يعد الإنسان المعاصر مستعداً للدخول في هكذا مشاعر، ذلك أن الحب يخفي وراءه الكثير من الفضائل الأخلاقية، مثل الإخلاص والاستمرارية والتضحية، في حين قد لا يملك الإنسان اليوم في الغرب أياً من هذه الفضائل، ولذلك فهو قد يفضل التجارب العابرة، واغتنام الفرص المتاحة الآن وهنا، من دون تحمل أي مسؤولية أو تبعات.
ويسمي زيغمونت باومان الشخص الذي يعيش مثل هذا الانجراف وراء العلاقات المتقلبة والعابرة بـ«الإنسان بلا روابط»، أي ذلك الإنسان الذي يدخل في علاقة، دون أن يكون مرتبطاً بها في الآن ذاته. يقول باومان: «إذا أردت الاستمتاع بالحياة المشتركة، فلا تقطع على نفسك عهداً ولا تطلبه، بل اجعل الأبواب كافة مفتوحة على الدوام» (الحب السائل - ص 30).
عالم التوجس
يرى باومان أن الإنسان أصبح يعيش في قلق دائم، ذلك القلق والتوجس الذي اعتقدت الحداثة الصلبة، أنها تمكنت من القضاء عليه عن طريق التقدم العلمي والحضاري. وعلى العكس من ذلك تماماً فعالمنا هو عالم التوجس والقلق والأرق، فنحن نكاد نعيش في حالة دائمة لترقب وقوع حدث غامض ومخيف!
وباختصار لا يسع المرء إلا أن يثني على زيغمونت باومان، الذي أنجز تشخيصاً دقيقاً لبعض اختلالات الحاضر، من دون أن يدفعنا للسقوط في الحنين إلى الماضي، أو كما يحمل عنوان أحد كتبه «الريتروتوبيا»، إذ ظل دائماً يؤكد أن مثل هذا الانكفاء الحنيني للماضي قد تكون له هو أيضاً بدوره نتائج كارثية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©