أحمد مراد (القاهرة)
المشروع الفكري للفيلسوف الوجودي المصري الراحل عبدالرحمن بدوي (1917 -2002) يتجسد جوهره بشكل جلي في مقولته الشهيرة: «إنني أزحف منذ بداية حياتي الفكرية على جبهتين، جبهة الفلسفة العامة بما فيها الفلسفة الوجودية، وجبهة الفكر الإسلامي، ولا أراني ظلمت جبهة على حساب الأخرى». وخلص عبدالرحمن بدوي في كتابه «دراسات في الفلسفة الوجودية»، إلى أن: «الأصل في السؤال عن الحرية، وهل أنا حر؟ هو أنني أريد أن أكون حراً، ولهذا فإن إمكان الحرية ناشئ من إرادتي للحرية، فالحرية ليست شيئاً يحتاج إلى برهان، بل هي قراري أنا أن أكون حراً، إذاً لا تأتي الحرية من خارج، ولا تحتاج إلى شيء لإثباتها، بل يكفي أن أقرر أنني حر كيما أكون حراً».
ويعرف بدوي الفلسفة الوجودية بأنها أحدث المذاهب الفلسفية، وفي الوقت نفسه من أقدمها، فأحدثها لأن لها مركز الصدارة والسيادة في الفكر المعاصر، ومن أقدم المذاهب الفلسفية لأن العصب الرئيس للوجودية أنها فلسفة تحيي الوجود، وليست مجرد تفكير فيه.
ظل بدوي لسنوات وعقود طويلة يروج للمدرسة الوجودية في الشرق العربي والإسلامي، وجاءت رسالته للماجستير بعنوان «مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية» قبل أن يعدلها إلى «مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة» استجابة لنصيحة الفيلسوف الفرنسي، أندريه لالاند، وأشرف عليها الفيلسوف الفرنسي، ألكسندر كويري، كما حملت رسالته للدكتوراه عنوان «الزمان الوجودي»، وأشرف عليها الشيخ مصطفى عبدالرازق، وطه حسين، وباول كراوس، وعلق عليها طه حسين قائلاً: «لأول مرة نشاهد فيلسوفاً مصرياً». وحاول بدوي أن يحافظ على مسلكه الوجودي عبر العديد من مؤلفاته وترجماته، وكان شديد التأثر ببعض الوجوديين الأوروبيين، مثل الفيلسوف الألماني «مارتن هايدغر».
55 عاماً من التنوير
تواصلت مسيرة عبدالرحمن بدوي الفكرية والأكاديمية على مدار أكثر من نصف قرن، بدأت بتعيينه مدرساً في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة فؤاد (القاهرة حالياً) في أبريل 1945، وفي 19 سبتمبر 1950 تركها ليشارك في تأسيس قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة إبراهيم باشا (عين شمس حالياً)، وفي الفترة بين العامين 1956 و1958 عمل مستشاراً ثقافياً ومديراً للبعثة التعليمية في بيرن بسويسرا.
انتقل في عام 1962 للإقامة في باريس، واستقر فيها 40 عاماً، واعتاد على زيارة دار الكتب الأهلية يومياً ليقرأ ويكتب وينتج كل عام كتابين.
ويقول المفكر والفيلسوف المصري، أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس، الدكتور مراد وهبة، إن عبدالرحمن بدوي صاحب أثر فكري وفلسفي وثقافي عظيم، ويُعد أحد رموز التنوير والثقافة العربية في القرن العشرين، إنه الفيلسوف العربي الذي اقتحم مجالات ثقافية وفكرية شاع عنها أنها من الممنوعات الثقافية، ومع ذلك لم يتردد في تناولها وتحليلها ونقدها، ولم يتوان في دعوة الآخرين إلى السير فيما سار فيه.
وهبة، الذي تتلمذ على يدي عبدالرحمن بدوي، يوضح أن المسار الذي سار فيه فيلسوفنا العربي لم يكن سوياً أو سهلاً، بل كان مضطرباً شائكاً دفع بصاحبه إلى أن يكون في حالة صدام، وبالتالي أصبح في حالة هجرة من بلد إلى آخر، وأظن أن كتابه «سيرة حياتي» تعبير صارخ عن هذه العلاقة العضوية بين الصدام والهجرة، وعن أزمة المثقف العربي عندما يتحرش بالممنوعات الثقافية.
ويشير د. مراد إلى اهتمام بدوي بإشاعة التنوير في الحضارة العربية والإسلامية.
همزة وصل
يرى المفكر الإسلامي، وأستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة، الدكتور محمد السيد الجليند، أن عبدالرحمن بدوي صاحب منهج علمي رصين جعله واحداً من أبرز أعلام الفكر الفلسفي في العالمين العربي والإسلامي خلال القرن العشرين، فقد تتلمذ على أيدي أعلام التنوير والثقافة، أمثال طه حسين، والشيخ مصطفى عبدالرازق، والشيخ محمود شاكر، ونهل من علم وثقافة هؤلاء، وتعلم منهم، ورد على بعضهم، وبعدها كان له توجه خاص في نشاطه الفلسفي.
ويضيف الجليند أن بدوي في باكورة حياته الفكرية كان ممثلاً للمذهب الوجودي في مصر والعالم العربي، ثم اتجه إلى تحقيق التراث الفلسفي والكلامي، فكتب عن أرسطو وأفلاطون وترجم لهما، ويمثل في ترجماته للفلسفة اليونانية مصدراً أصيلاً لطلبة العلم الفلسفي، خاصة الذين لا يتقنون اللغة اليونانية، ويمثل لهم همزة الوصل بين الحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية.
ويشير إلى تميز دراسات بدوي في علم الكلام، ما تجسد بشكل رائع في كتابيه «شخصيات قلقة في الإسلام»، و«مذاهب الإسلاميين»، وتعد رسالته عن استحسان الخوض في علم الكلام مصدراً أساسياً لطلبة وباحثي المذهب الأشعري.
جيل كامل
تفرغ بدوي في العقد الأخير من حياته للدفاع عن الإسلام، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم، وتصدى لحملات بعض المستشرقين ضد الدين الحنيف، واطلع على كتاباتهم، ورد عليها بنفس الأسلوب الذي اتبعوه في استخراج الأحداث التاريخية، وأنتج في ذلك نحو 15 كتاباً.
لم يكن عبدالرحمن بدوي أول فيلسوف وجودي عربي فحسب، وإنما يوصف بأنه أغزر أساتذة الفلسفة العرب إنتاجاً وإبداعاً، إذ أنتج نحو 150 كتاباً بين تحقيق، وترجمة، وتأليف، وتناولت شتى صنوف المعرفة الفلسفية والاجتماعية، وصدرت بعدة لغات، ما جعل المفكر المصري الراحل الدكتور حسن حنفي يصفه بقوله: «فرد واحد يقوم بدور جيل كامل أو مؤسسة بحثية بأسرها، وفيلسوف موسوعي، يؤلف في كل ميدان، ويكتب في كل علم، لا تحد معارفه حدود، يسبح في فضاء لا نهائي للمعارف البشرية، وأتاحت له معرفته بلغات عدة مثل الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، الإنجليزية، الإسبانية، اليونانية، اللاتينية، الفارسية، التركية، أن يعزز رصيد موسوعيته بالاطلاع على مصادر فكرية متنوعة، في مظانها، وبلغاتها الأصل، وأن يقوم بأكبر سياحة عرفها الفكر العربي المعاصر في فكر البشر، لذلك وصفه المفكرون بـ«نقطة التقاء بين الشرق والغرب».
تفرد بدوي بكتاباته المتميزة في تحقيق التراث، إذ يُعد رائداً في هذا المجال، ما جعل جامعة السوربون الفرنسية تعتمد عدداً من مؤلفاته لتدريسها لطلابها، وضمت قائمة مؤلفاته عدداً من أعلام الكتب والمؤلفات في الفكر والفلسفة.
أصدر بدوي مذكراته في كتاب كبير من جزءين، بعنوان «سيرة حياتي»، وأحدث صدى واسعاً في الأوساط الفكرية والفلسفية المصرية والعربية، بعد حياة حافلة بالعلم والفكر في فرنسا عاد إلى مصر، وبعد أربعة أشهر توفي في 25 يوليو 2002م.