محمد نجيم (الرباط)
«التشكيل البصري في الشعر العربي»، أحدث كتاب أصدره الشاعر المغربي والناقد الفني الدكتور بوجمعة العوفي، ضمن منشورات دائرة الثقافة في الشارقة. وهو دراسة نقدية لبعض التجارب الشعرية العربية التي راهنتْ، بل انخرطتْ بشكل واضح، وعلَني، وجَسور، في العديد من «الإبدالات» الشكلية والبصرية والتحولات الجمالية والتعبيرية الجديدة للقصيدة، انطلاقاً من تعبيرها الخطي، وصولاً إلى توظيفها لعناصر غير لسانية وتشكيلية دالة في رحمها، ومحاولتها مزاوجةَ الشعري بالتشكيلي بشكل أساس.
يستحضر الكتاب بعض التجارب أو المتون الشعرية العربية المنتسبة أساساً إلى بنيات بصرية – صورية واضحة ومجسدة فضائياً ومكانياً: بنيات تجعل من هذه القصيدة عملاً إبداعياً شاملاً، ومنفتحاً على إيقاعات بصرية جديدة وغير سماعية، تَنقُل قارئها من وضْعِ السماع إلى وضْعِ المشاهدة، والتأمل، والإدراك البصري، ثم تُدخِله، بالتالي، في تجربة تفاعل حسّي شامل وكُلّي، تشتغل معه لدى هذا القارئ – الناظر كل الحواس، ويكون، من ثَمّ، إدراكُ القصيدة، كما فِعْلُ تلقيها، شاملاً ومتعدداً. وتلك تجارب، يقول الدكتور بوجمعة العوفي، في حواره مع (الاتحاد الثقافي) يمكن مساءلتُها بصرياً ودلالياً وجمالياً في التجربة الشعرية العربية، بتُخومٍ وإن لم يكن هناك من اتفاق أو إجماع داخل القراءة والنقد العربي بنعتها، هنا ومرحلياً على الأقل، بالجديدة والمغايرة، أو حتى إنْ جاءت كذلك هذه التخوم أو التجارب الشعرية البصرية، مطبوعة أحياناً بالقِلة، والتشابه، وعدم التنوع، والتشظي، ومحكومة أيضاً برؤى وتداعيات فَهْم شخصي للحداثة الشعرية، فهي قد عمِلتْ، مع ذلك، في نظرنا، على خلخلة العديد من البنيات التقليدية والسائدة في مدونة الشعر العربي، وعلى رأسها البنية الإيقاعية السماعية للنص، والتي جعلتْ خطابَ النص الشعري ودلالته، يقتصران فقط على العنصر اللساني دون غيره من باقي العناصر والتشكيلات البصرية الأخرى في هذا النص.
يقول الدكتور بوجمعة العوفي، الذي يرى الإمارات مركزاً إقليمياً حيوياً للفنون التشكيلية لـ (الاتحاد الثقافي): كانت هناك دائماً، علاقة وطيدة بين الأدب والفن التشكيلي. هذه العلاقة التي ظلت تجمع الإبداع الأدبي، في مختلف أجناسه وأشكاله، بالإبداع التشكيلي (سواء أكان صباغة أم نحتاً أم فنوناً غرافيكية Arts graphiques) عبر العديد من المسارات والحقب التاريخية للفنون والآداب الإنسانية بشكل عام. إذ يحفَل تاريخ الفن والأدب بالعديد من التقاطعات المثمرة والملغزة بين الشعري والتشكيلي، سواء على مستوى الممارسة الإبداعية، كتشكيل القصيدة بصرياً أو تكليم البصري بالشعر. أو على مستوى محاورات الأدباء للأعمال الفنية بالنقد والتحليل وتقريب مدلولاتها الجمالية والتعبيرية من الجمهور. وخير دليل على ذلك ما تُدين به التكعيبية مثلاً في الرسم لكتابات الشاعر غْيوم أبولينير. وليس غريباً أيضاً، أن ينفرد الشعر والمسرح خصوصاً (باعتباره نصاً أدبياً، وعرضاً فنياً – مشهدياً في الوقت نفسه) أكثر من غيرهما من الفنون أو الأجناس الأدبية الأخرى، ضمن هذه العلاقة الوطيدة بين الأدب والفن، بمساحات شاسعة من أشكال التقاطع، والتمازج، والتزاوج، والتجاور، وحتى التجاوُز أحياناً.
النقد الموازي
عن رأيه في قلة نقاد الفن التشكيلي في المغرب والوطن العربي: يقول: إن تطور أي فن من الفنون، لا بد وأن يفرز نقداً موازياً يكون بمثابة قيمة أساسية ينبني عليها فهم وترسيخ تعبيرات هذا الفن. إذ من خلال النقد يستطيع الفن عموماً أن يدرك ذاته وأسئلته الجمالية والتعبيرية، ويصل إلى مستوى التعبير عن روح العصر، وبلورة سياقات القيم الروحية والمادية والثقافية وتجديدها، ثم الحفاظ عليها وتوطيد معانيها بشكل عام أيضاً في العمق الحضاري والفكري لأي شعب من الشعوب.
ولكون النقد الفني في المغرب وفي الوطن العربي، ما زال يعرف فراغات مهولة، أثّرتْ بشكل سلبي على سيرورة النتاج التشكيلي، من حيث إنّ الخطاب النظري والنقدي المصاحب للممارسة التشكيلية في المغرب والعالم العربي، بصفة عامة، كان وما يزال في بدايته، ولم ينفتح بعد، بالعمق والكثافة الضروريين، على كل مكونات وتجارب هذه الممارسة، مقارنة مع التنوع والزخم اللذين يعرفهما الإنتاج التشكيلي العربي على امتداد خرائط إبداعه والعديد من بؤره التي لم تُكتشَف بعد، ولم تنل حظها المعقول من الظهور والانتشار كذلك.
إلا إذا استثنينا بعض الكتابات التاريخية أو«التقعيدية» القليلة المرتبطة بمنحى القراءة والنقد، والتي عرفتهْا الساحة التشكيلية المغربية بعد الاستقلال، حيث كان الجزء المهم منها حكراً على الأجانب والأوروبيين، وكان منها ما هو جاد ومفيد بالفعل. مع ضرورة الإشارة إلى أنّ هذه الكتابات التاريخية أو النقدية، غالباً ما كانت تثير على نفسها بعض المآخذ الجزئية، إما بسبب صعوبة المهمة، أو بسبب اشتغالها على تجارب فنية من دون أخرى، لضرورة يفرضها الحضور القوي لبعض هذه التجارب في السوق ولهذا الفنان أو ذاك، أو حتى بسبب قناعة فنية معينة لدى مؤرخ الفن أو الناقد.
المشهد الإماراتي
حول رأيه في المشهد الثقافي في الإمارات، قال الدكتور العوفي: بفضل سياستها التي تهدف إلى التنوع والتطور، تمتلك دولة الإمارات العربية المتحدة مشهداً ثقافياً متنوعاً ومزدهراً. تعمل الحكومة الإماراتية على تعزيز الثقافة والفنون بشكل ملحوظ ونشيط من خلال العديد من المبادرات والمشاريع، وتضم الإمارات العديد من المتاحف والمعارض التي تعرض الفنون والثقافات المختلفة. مثلاً، متحف اللوفر أبوظبي يعرض مجموعة رائعة من الأعمال الفنية العالمية، وهناك متاحف أخرى مثل متحف الشارقة للحضارة الإسلامية ومتحف الشارقة للفنون، كما تُنظم في الدولة العديد من المهرجانات والفعاليات الثقافية على مدار العام. مثل معرض أبوظبي الدولي للكتاب ومعرض الشارقة الدولي للكتاب، اللذين يعتبران من أبرز الفعاليات الأدبية والفكرية في المنطقة. كما يتم تنظيم مهرجانات موسيقية وفنية تجذب الجماهير المحلية والدولية. كما تُقدم الإمارات دعماً قوياً للتعليم والبحث في المجال الثقافي. هناك جامعات ومؤسسات تعليمية تقدم برامج دراسات عليا في مجالات الفنون والثقافة. وهناك عروض مسرحية وفنية متنوعة تُقدم في الإمارات، سواءً من قبل الفنانين المحليين أو الفنانين الدوليين. تشجع هذه الفعاليات على التفاعل الثقافي والتبادل بين مختلف الثقافات. كما تحظى اللغة العربية باهتمام كبير في الإمارات، حيث يتم دعم الأدباء المحليين وتنظيم فعاليات أدبية. هناك جهود مستمرة للحفاظ على اللغة وتعزيزها كجزء من الهوية الوطنية. وتحرص الإمارات على الحفاظ على تراثها الثقافي والتراث الشعبي، من خلال تنظيم فعاليات ومهرجانات تسلط الضوء على العادات والتقاليد القديمة لشعب الإمارات. أما في مجال الفنون البصرية: فالإمارات تَشهد نمواً ملحوظاً في مجال الفنون البصرية، مع وجود معارض فنية وورش عمل للفنانين المحليين والعالميين.
البحث النقدي التشكيلي
بالنسبة لأهمية «جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي»، يقول الدكتور العوفي: هذه المسابقة تُولي للبحث النقدي التشكيلي والبحث الفني والبصري اهتماماً يليق بمكانته، وتحرص على إبراز جهود الكتاب والنقاد والأكاديميين فيه، باعتباره عمليةً موازيةً إبداعياً للعملية الفنية. وهي إذ تعمل على استقطاب الجهود والأفكار النيّرة في هذا المجال، فإنما ترمي إلى تحفيز البحث النقدي التخصصي في حقول الفنون التشكيلية والبصرية، وإبراز دور المبدعين، ومتابعة الاتجاهات الفنية وتوثيقها، كما ترمي لإيجاد لغة مشتركة بين النقاد من جهة، وبينهم وبين القارئ المهتم من جهة أخرى، والتأسيس لإنتاج الثقافة الفنية والبصرية وتسجيلها.
ويضيف: إن الإمارات تعتبر مركزاً حيوياً للفنون التشكيلية في منطقة الشرق الأوسط. ويمتاز المشهد التشكيلي في الإمارات بتنوعه وحيويته، حيث يجمع بين الفن التقليدي والحديث والمعاصر والتجريب، ويعكس تأثيرات مختلفة من الثقافات والتقاليد والاتجاهات الفنية المختلفة. بالإضافة إلى الفنانين الموهوبين المحليين، يوجد عدد من الأسماء البارزة التي ساهمت في بناء المشهد التشكيلي في الإمارات، نذكُر منها على سبيل المثال لا الحصر:عبد القادر الريّس، وعبد الرحيم سالم، والراحل حسن شريف، والدكتورة نجاة مكي، والدكتور محمد يوسف، ومحمد القصّاب، وعبيد سرور، وسالم جوهر، وفاطمة لوتاه، وأحمد الأنصاري، ومنى الخاجة، وعبد الرحمن زينل، والفنان الراحل محمد بولحية. وجاء بعدهم جيل جديد استكمل التأسيس الأولي بتأسيس آخر قائم على التوازن في الخيارات الفنية بين تأثيرات الجيل السابق، وبين استقلالية البحث والتجريب في مدارات الفنون المعاصرة، ونذكر من هؤلاء: الدكتورة كريمة الشوملي، ومحمد كاظم، وعلي العبدان، وحسن شريف، وخليل عبد الواحد، ومحمد أحمد إبراهيم، وعبد الله السعدي، وموسى الحليان، وأحمد الشريف، ومحمد الأستاذ، وابتسام عبد العزيز.