نوف الموسى (دبي)
ثمة وعي واسع في المشهد الثقافي المحلي، في دولة الإمارات، بحيوية «الاقتصاد الإبداعي»، وأهمية بناء شبكات مستدامة، تضمن استمرارية المنتج الثقافي، وتقرأ مؤشرات تأثيره وتناميه، وآلية تفعيل ازدهار هذا القطاع كغيره من قطاعات التنمية الأخرى. والسؤال الأهم في المرحلة الحالية، هو طبيعة الثقافة التي يتبناها المثقفون والفنانون ومنتجو الصناعة الإبداعية، تجاه إدراج الثقافة نفسها في السوق. والإشكالية الفكرية المتراكمة على مدى سنوات، في مدى تحكم الصناعة في مضمون المنتج الثقافي، بكافة أشكاله، ليتحول بعدها إلى «معضلة» ساهمت في اتساع الفجوة بين إدراك المثقف لأهمية وعيه نحو المنظومة الاستثمارية لريادة الأعمال الثقافية، وبين بعض رجال الأعمال، الذين يملكون البرنامج العملي، والإجراء التنفيذي لماهية إنشاء بنى تحتية وخدمات لوجستية تسهيلية، من شأنها أن تؤسس منصات عالمية، تدعم دور الجهات الرسمية، وتضفي زخماً لبيان الاحتياجات الرئيسية للأفراد، في مجال صناعة الأعمال الإبداعية والثقافية والعلمية.
«الاتحاد» التقت رجل الأعمال الإماراتي محمد بن خمّاس، الرئيس التنفيذي لـ«مجموعة الأهلي القابضة»، ليس فقط لتتعرف على مشروع الرحّالة (نوماد)، في مدينة دبي، الذي أطلقته المجموعة في وقت سابق، عام 2019، باعتباره نظاماً بيئياً متكاملاً للأعمال الإبداعية الحرة، ولكن لما يحتاجه المثقفون أيضاً من فتح أفق جديد، غير مكتفين بمناقشة الأعمال الثقافية، على مستوى طبيعة الإنتاجات، بل كمساهمين في رسم هيكلة بيئات صناعتها، وخاصة في مجتمعات الأعمال الناشئة، والاستفادة من عالمية الحضور التنافسي الاقتصادي للدولة، والسعي لبناء نماذج حوار ثقافية فكرية تدعمها بيئات الاستثمار، فالمثقفون والمبدعون في كافة المجالات يسهمون في الإثراء المعرفي بكيفية بناء محرك ثقافي، يتكامل مع قوى المحركات الاقتصادية، سواء عبر المناقشة والتداول أو البحث والنقد العلمي.
ودعم القطاعات الإبداعية، ومن بينها محور الثقافة، شكل بحثاً جوهرياً في الأعوام الأخيرة من تنامي المبادرات الرسمية، لإثراء دور المؤسسات الثقافية والإبداعية، بما يخدم الأفراد، ليشكل التواصل بين المبدع ورائد الأعمال، مقياساً نسبياً، لمؤشرات تفاعل القطاع الخاص مع الصناعات الإبداعية.
البيئة الإبداعية
وبالنسبة لرجل الأعمال محمد بن خمّاس، أكد أن التحدي الحقيقي الراهن، ليس في أن يصل الفنانون والمبتكرون لقنوات الدعم، سواء الرسمية أو الخاصة، ولكن في كيفية وصول رواد الأعمال أنفسهم للمهارات، فهم كرواد في قطاع الأعمال، قد يجدون صعوبة في اكتشاف المواهب الشبابية. وعن «الكاتب» أو «الرسام» أو «الموسيقي» أو حتى «الناشر» في كافة التخصصات، على سبيل المثال، وكيف تخدمهم مسألة تبسيط الأبعاد العملية، لإبداعهم، وتحويلها إلى مشاريع قابلة للتحول والتطور والاستمرارية، أوضح بن خمّاس أن علينا أن نتأمل في البداية السمات البيئية التي يحتاجها المبدعون لخلق الفرص. ففي تجربة «رحالة» مثلاً خصصوا مساحة تقارب الـ«مليون قدم مربع»، موزعة بين قطاع الأعمال الحرة، وقطاع الإعلام المتمثل بـاستوديوهات الأفلام، واستوديوهات التسجيل، واستوديوهات المونتاج، وقطاع يهيئ المساحات، ويتضمن الاستوديوهات المستقلة، والمعارض الفنية، إضافة إلى منشآت الطباعة ثلاثية الأبعاد، إلى جانب قطاعات أخرى مثل الألعاب والتكنولوجيا، يدعمها الجانب السكني والخدمي. وأبرز نقطة مفصلية للبيئة الإبداعية كما أشار هي أن تتسم بـ«هيكلة دينامكية متحركة»، تستهدف الأفراد بشكل أساسي، وليس الشركات، ومفهوم الدينامكية هنا، أنها تعتمد على مبدأ «كيف يستطيع كاتب (كنموذج) بقليل من المال وكثير من المهارة الإبداعية، أن يؤسس شركة ناشئة»، من خلال منصات تعتمد على بناء لقاءات مفتوحة بين مختلف الشراكات العالمية في قطاع الإبداع والتخصصات المهنية، بحيث يتوصل فيها الكاتب إلى قنوات لموظفين يدعمون مشروعه في النشر والتسويق والطباعة، دون أن يكونون أساساً موظفين دائمين في شركته، وخاصة أن الأعمال الإبداعية المستقلة، قد لا تحتمل قرارات على مدى سنة، بل تضع أجندتها خلال أسابيع قليلة، وهي في حالة تغير مستمر، فالفضاء يتيح المعدات والموارد الأساسية للإنتاج، التي تكون في الغالب مكلفة، مع وصف احترافي لآلية دخول السوق، ومراعاة تكلفة المعيشة، ومستلزمات التشغيل، لتأسيس الأعمال وتطويرها. والقيمة الأهم أن المبدع يملك قرار ترك المنظومة بشكل سلس، إذ يستأجر ويعمل فيها دونما قيود معقدة، خلال ساعات أو يوم واحد أو شهر أو حتى بعد سنة.
بناء وتمكين
وأكد بن خمّاس، أن جميع البرامج الوطنية، استهدفت في مبادراتها الإبداعية والثقافية الرائدة بناء وتمكين الإنسان، والسؤال اليوم كيف يدرك ويستوعب المتلقي تلك المبادرات ويستفيد من فرصها الكثيرة، وخاصة أن الأمر أصبح على مستوى وعي مجتمعي. وأضاف أن دور الجهات الرسمية أساسي في خلق الفرص، ودولة الإمارات رائدة في هذا، والمؤشر في عوائد هذه الاستثمارات، يتحمل الفرد المبدع جزءاً حيوياً من تفعيله.
ولا شك أن الانفتاح الثقافي في الدولة يساهم، بطبيعة الحال، في بناء منظومة اقتصادية يديرها تداخل الحوار الثقافي، وفي محور استقطاب العقول الملهمة، بالتوازي مع حضور جنسيات من مختلف دول العالم في الدولة، مما يفيد رواد الأعمال الإماراتيين الشباب، في القطاعات الإبداعية والثقافية. وتأسيس بيئة اجتماعية وثقافية يجعل المبدع المحلي يتعرف على قدراته بشكل أكبر، لأن العمل ضمن مجموعات متكاملة في ريادة الأعمال، سيختبر المبدعين فيها مستوى ما يملكونه من قدرات، وما يستطيعون تقديمه على مستوى منتجهم الثقافي. وبيّن أن الحاضنة الإبداعية، تضع المبدع أمام واجهة اكتشاف نفسه، دون أن تعرقله أية عقبات.
والحال أن رؤية بعض شركات القطاع الخاص، وماهية دعمها للبيئات الإبداعية، خاصة الثقافية، لا تزال أمام مفاهيم مستوى الشفافية والمبادرة لبناء المستوى الإنتاجي الفكري في كثير من المجتمعات، ومنها التردد والبطء من قبل بعض المثقفين والمبدعين في القطاع الثقافي. وتغير مرجعية الانطباع الثقافي يحتاج عادةً إلى تجربة فعلية لتقييمها، ودونما دراسة عملية لا يمكن فهم الآلية العملية للسوق الاقتصادي بإدراج مشروعات محور الثقافة فيه بقوة، لأنها في المجمل، مشاريع تستحق المجازفة، وهي سمة الأعمال الإبداعية في العموم، مبيناً أنها ليست المرة الأولى التي يذهب فيها إلى توسيع خياراته كمستثمر في قطاعات حيوية وخدمية، وعن ذلك قال: «هناك فترة قد يعيشها الفرد المبدع، بين ممارسة موهبته الإبداعية، وبين انتظار وظيفة اعتيادية، ويمكن أن يستغل حس التجربة في أن يحول مهاراته وموهبته إلى منتج ثقافي إبداعي، فرصة تستحق المجازفة، بل ضرورية ليفهم الفرد ما ينقصه، وما يود فعلياً صناعته على مستوى التطوير المهني والعملي، ونحن مهتمون كداعمين للقطاعات الإبداعية بتهيئة بيئة التجربة تلك».