سعد عبد الراضي (أبوظبي)
أصدر مركز أبوظبي للغة العربية، التابع لدائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي، كتابين مهمين في النقد الروائي للدكتور محسن جاسم الموسوي، هما: بنية الاضطراب - الرواية العربية في الألفية الثالثة، ورواية ما بعد الاستعمار العربية - مواجهة التذبذب الملتبس. والدكتور محسن جاسم الموسوي يعمل أستاذاً للدراسات العربية والمقارنة في جامعة كولومبيا، نيويورك. وكان قد عمل أستاذاً من قبل في الجامعة الأميركية في الشارقة، وعدد كبير من الجامعات العربية الأخرى. كما شغل إدارة «آفاق عربية» والشؤون الثقافية طيلة الثمانينيات في العراق. وأوجد برامج الترجمة والتأليف في العراق في حينه. ويرأس منذ 2002 تحرير مجلة الأدب العربي (الصادرة عن Brill بالإنجليزية)، كما نال جائزة الشيخ زايد للكتاب 2022 عن كتابه «ألف ليلة وليلة في الثقافة العالمية»، ونال جائزة العويس في النقد الأدبي 2002، وجائزة الكويت في اللغة العربية وآدابها سنة 2018، كما نال جائزة الملك فيصل في الأدب العربي باللغة الإنجليزية. وصدر له عدد كبير من الكتب المهمة باللغتين العربية والإنجليزية، كما أنه روائي أنجز ست روايات منشورة. «الاتحاد» أجرت هذا الحوار مع الموسوي حول تجربته في الجانبين الأكاديمي والإبداعي.
• تجربتك في تدريس الطلاب الأجانب في جامعة كولومبيا، ماذا يمثل الأدب العربي بالنسبة لهم، وكيف ينظرون إليه، وما الذي يستهويهم فيه أكثر، هل الرواية أم الشعر أم غير ذلك؟
** نحن نتحدث عن مستويات متفاوتة للطلبة، وفي جامعات النخبة، يجري اختيار محدد جداً لطلبة الدكتوراه. وحتى المراحل الأولية تلتزم باختيارات معينة. وغالباً ما تكون دروسي المقدمة بالإنجليزية مفتوحة للجميع من دون تقيد بالاختصاص: وقد قدمت عشرات المساقات التي تتعلق بالأدب العربي. أما في مرحلة الدكتوراه فالأمر يختلف: لأن طالب مرحلة الدكتوراه عارف باللغة العربية وآدابها بعد ما تأسس في ذلك وتخصص في جانب. وهناك من تستميله النظرية الأدبية، وآخر الرواية العربية، وثالث الشعر الحديث، وآخر الشعر القديم... إلخ. وكما نعلم فإن جامعات معينة مثل (كولومبيا) تولي التخصص اهتماماً كبيراً وتصرّ على أن يكون خريج الدكتوراه متمكناً في الاختصاص بعدما أخذت أو أخذ المترشح للدكتوراه عدداً من المساقات والدروس والامتحانات، وسعى لتجاوز العثرات والهنات.
• كيف استطعت أن توازن بين تجربتك الأكاديمية في التدريس وتجاربك في الكتابة؟ وكيف توزع الوقت لتبدع في المهمتين؟
** الموازنة والتوفيق بين التعليم والبحث الأكاديمي والممارسة النقدية والإبداعية لا ينفصلان: لكن التعليم يفرض على صاحبه عبئاً معيناً وهو لهذا السبب يحول من دون المضي في كتابة ما تمليه حالات الإبداع في أوقات معينة، فيضطر الذهن إلى إخلاء الساحة أمام مهمات التدريس كلما تزامن الاثنان، لكني أقتطع من هذا وذاك للتوفيق في التخطيط للكتابة أو المباشرة فيها. وكم من عمل سردي أو نقدي تركته في منتصفه ونسيت ما كان في الذهن بعد حين. هكذا هو الأمر. ولكن هذا التزامن له حسناته لإبقاء الذهن مستيقظاً نشطاً.
• أين تقع الرواية العربية في مشهد الرواية العالمي، وكيف ترى الرواية الإماراتية في مشهد الروايات العربية؟
** أخذت الرواية العربية تلفت الانتباه بشكل أو بآخر. هناك روايات جلبت الانتباه لأنها استمالت دارسي الآداب المقارنة، وتلك المعنية بأنثروبولوجيا الثقافات وغيرها. وما فعلته في كتابي الذي ظهرت ترجمته حديثاً عن «كلمة» (في مركز أبوظبي للغة العربية) المعنون «رواية ما بعد الاستعمار العربية» هو أن أضع الرواية في مسارات عالمية. والكتاب استدرج دارسي خطاب ما بعد الاستعمار، ومن جانب آخر فإن روايات ذات جاذبية معينة مثل رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح وجدت حضوراً لدى المهتمين بهذا الخطاب، لأنها جزلة قوية مشذبة لا تسرف قولاً ولا فعلاً. كما أنها ذات مستويات سردية محكمة وذكية. وحواراتها قوية مختزلة من دون ضرر. ولها التباسها وتداخل رسالتها. وهذه العوامل جعلت منها نصاً محبباً يشجع القراءة والفحص والتأمل. على الروائي العربي ألاّ يبحث عن «العالمية»، لأن هذه تأتي طواعية للكتاب الجيد. الجودة هي الأساس، وكان الطيب صالح مجيداً في ذلك.
لم يزل حضور الرواية العربية محدوداً عالمياً، للأسباب التي ذكرت. علينا أن نتذكر أن هناك لحظة مهمة تحظى بها كتابة معينة، كما فعلت الدهشة التي رافقت الواقعية السحرية لدى ماركيز وغيره من كتاب أميركا اللاتينية. وقادت شهرة أنفانتي وماركيز إلى شهرة آخرين. حان الوقت للرواية العربية لأن تكون صادقة مع نفسها أولاً.
• أنت ناقد وباحث على الصعيدين العربي والعالمي، لماذا يستهويك النقد أكثر، على رغم أنك كذلك تكتب الرواية، ولمَ التركيز على النقد الروائي؟
** أما بشأن النقد الذي أمارسه والرواية التي أكتبها فلم أرَ ضيراً في هذه الصحبة الجميلة، لأن لكل منهما أفقه وطاقته. وغالباً ما تود كتابة الرواية أن تقتنص المجال لاستكمال ما داهم الذهن ودفعه للبدء في الكتابة. هذه اللحظة الجائرة المأزومة هي الأهم لأنها طقس العبور الذي لابد منه. وكذلك ممارسة النقد، لأنه هو الآخر فعل إبداعي أولاً، ومنهجي ثانياً، ومدرسي ثالثاً. أي أنه مهمة ثلاثية المرمى والمقاصد والأداء. وفيه ابتكار المبدع، وإذا غاب عنه الإبداع أصبح رثاً متيبساً لا معنى له. ولهذا تقرأ الكثير الذي لا يستهوي القراء، لأن كُتاب ذلك لا يشعرون بمحبة ما يكتبون.
• ما هي حدود التأثر والتأثير لديك بين النقد بمفهومه الأكاديمي الشامل، وبين كونك مبدعاً له رؤية خاصة في الكتابة؟
** تعني الكتابة الأدبية لزوم التأسيس في قراءات واسعة، عربية وعالمية، وهذه تتوزع أيضاً ما بين الموروث والقديم والجديد. وهذه القراءات شأنها شأن الحياة الاجتماعية والثقافية لها شأنها في تكوين «مدونة ثقافية» يحياها الذهن وتتشكل قدراته في داخلها. ولهذا السبب ليس هناك من حدود في التكوين الثقافي، ولذا يوجد تفاوت بين الناس والكتاب والنقاد والدارسين. نحن نتحدث عن «الكتابة العميقة» أو «الذكية»، وليس الكتابة «المتذاكية» التي تسعى لأن تثبت قدرات ما.
لم يكن نجيب محفوظ مثلاً يشحذ ذهنه بالإكراه، كان يتأمل محيطه، ويسقط عليه من دون قصد قراءاته الواسعة، ولهذا تأتي الرواية المحفوظية ولغاية «ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل» طيّعة منسابة بهدوء وفعالية وتأثير عميق في النفس. وهكذا القصة لدى يوسف إدريس مثلاً، أو عند «غونتر غراس» وماركيز وأندريه جيد. هذه المزاوجة التي تتكامل في عمق الذاكرة هي التي ميزت الأدباء الكبار. وشأنهم حال النقاد. علينا التمييز بين الدارس الأكاديمي الذي همّه أن يقدم حصيلة بحث وتنقيب وبرهان. فقد تأتي الكتابة شحيحة في الإيحاء بطاقة شعرية أو أدبية، على خلاف (النقد) العميق المتأسس في النفس والمطلع على آفاق واسعة من دون أن يتوكأ عليها وكأنها (سند) مستقل قاتم وعكاز يعينه أو يعينها في الأداء.
وكما ذكرت من قبل، الكتابة الإبداعية، أي الحرة، تستدعي زمنها الخاص الذي تندفع فيه للكتابة وكأنها جريان حر. وهذا ما أتصيّده بين الفينة والأخرى. ولكن الاهتمامات والموضوعات قد تتشابك في الذهن وتزاحم واحدتها الأخرى.
• ما رأيك فيما يقدمه مركز أبوظبي للغة العربية للثقافة العربية؟
** يقدم مركز أبوظبي للغة العربية جهداً متميزاً في تقديم خدمات عالية الجودة للقراء والدارسين. وعدا مشروع «كلمة» المتميز، هناك مشاريع واسعة ثرية مثل الموسوعات الميسرة «المئويات» وكذلك المجلات، ودعم الكتب، والمعارض والمحاضرات والنشاطات والمؤتمرات المشتركة مع جامعات تتصدر الساحة الأكاديمية. وعطاء مشروع «كلمة» يستحق دائماً ذكراً خاصاً لجودة الترجمة ودقة متابعة القائمين والمشرفين على المشروع. ولهذا أعتبر المركز متميزاً جداً في الساحة العربية ورافداً عظيماً على صعيد المعرفة.
الرواية العربية في الألفية الثالثة
الكتابان الجديدان اللذان أصدرهما مركز أبوظبي للغة العربية «بنية الاضطراب: الرواية العربية في الألفية الثالثة»، والترجمة الكاملة لكتابه بالإنجليزية الذي أصدرته دار برل بعنوان: «رواية ما بعد الاستعمار العربية». وقام بالترجمة لدار كلمة د. موسى الحالول الذي نال الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا الأميركية.
وكتاب «بنية الاضطراب: الرواية العربية في الألفية الثالثة» هو الخامس للدكتور الموسوي في الرواية العربية ونقدها، بعد: الرواية العربية: النشأة والتحول، ثم، ثارات شهرزاد: فن السرد العربي الحديث، وبعدهما كتاب: انفراط العقد المقدس: منعطفات الرواية العربية بعد محفوظ، ثم رواية ما بعد الاستعمار العربية. ولهذا فالكتاب الجديد يعالج روايات الألفية الثالثة حصراً، ويرسم الخطوط النظرية والتطبيقية لبنية الاضطراب التي تبلور فكرة الأزمة باتجاه آخر في ضوء تراكم متعدد السمات لروايات الحروب والمحن والاغتراب.
وقد أفردت المقدمة الطويلة تحليلاً عميقاً للعنوان قبل أن يدلف قارئ الكتاب إلى فصوله العديدة في الغربة والهجرة والمنفى والحرب والحب.. والكتاب فتح في النقد الأدبي لأنه لا يستند إلى وجهة نظر واحدة، وإنما يبحث عميقاً في توليدات ذهن الكاتب لصياغات مستجدة، لما يواجهه اليوم، والكتاب يتناول عشرات النصوص التي تمتد على طول ساحة الكتابة العربية وعرضها داخل الأوطان وخارجها. أما كتاب «رواية ما بعد الاستعمار العربية» فعدا الكم الكبير من الروايات المذكورة فيه، فهو يحلل أيضاً معنى خطاب ما بعد الاستعمار وتطبيقات ذلك. وهو كتاب رائد في مجاله. وجاء في إخراج طباعي فخم من «كلمة».