بقلم تركي الدخيل
حين سُئِلَ زين الدين زيدان، نجم الكرة الفرنسي السابق، عن اللاعب العالق بذاكرته، أجاب: «إن كرة القدم فيها الكثير من اللاعبين الذين يسجلون أهدافاً عادية، وحده العبقري من يلعب بشكل غير عادي، ويسجل أهدافاً استثنائية».
في الصحافة كما في الرياضة، ثمة آلاف اللاعبين الماهرين، لكن من يلفت الأنظار، غالباً، هو من يقود الدفَّة، نحو مساراتٍ غير اعتيادية، مفكراً خارج الصندوق، مُطَوِّرَاً من مهارات العمل، رافعاً مهنية فريقه، ومعززاً مأسسة منشأته، قائداً سفينته باقتدار، نحو مساحاتِ إبداعٍ وتَفَرُدٍ وتَأَلُقٍ.
زميلنا الأستاذ، جميل الذيابي، الصحافي السعودي الذي لا يَقبلُ بِغيرِ إِثارةِ النقع، رئيس تحرير جريدة «عكاظ»، الذي يخرج بأطروحاتها، وإخراجها، وعناوينها، وموضوعاتها، عن المألوف، باتجاه جنون الصحافة، الجميل... العاقل، وضجيجها، المموسق.
كأن الذيابي عندما يتلبسه جنون المهنة، يستحضر قول حسان بن ثابت:
عَدِمْنا خَيْلَنَا إِنْ لَم تَرَوْهَا
تُثِيرُ النَّقْعَ مَوعِدُهَا كَدَاءُ
بصمة خاصة في التحرير
وجميل الذيابي، عربي قُح، يعرف تماماً أن لا أغلى على العربي من خيله؟! لذلك تمنى حسّان لها الهلاك إن لم تهاجم الأعداء متوغلة في المعركة حتى يتصاعد الغبار ويصل كداء، بأطراف مكة، وهكذا يفعل جميل مع رفاقه، الذين يعدهم أحصنة أصيلة.
الجميلُ، جميل، كان في محطاته الصحافية نموذجاً صاخباً، بلا مثيل، غير أن له بصمته الخاصة في التحرير، فهو من أنصار الأبواب المشرعة، والنوافذ المفتوحة، لكل صحفي يعشق المهنة، خاصة إذا كان في بداية السُلَّم.
يتقلبُ جميل الذيابي على قَلَقٍ، حتى يجد موضوعاً مختلفاً، أو قصة صحفية لم يُفَكَّر بها، لأنه على يقين أن القارئ أكثر من يحفل بالعمل المميز، وخيرُ من يكافئ الصحافي المجتهد. يعترف الذيابي- بكل فخر- أنه مجنون بمهنته، فهو لا يرتاح مثل غيره بالجلوس أثناء العمل، بل تجده يمخر عباب صالة التحرير متنقلاً من مكتب زميل إلى مكتب آخر، متطلعاً بشغف إلى خبر لافت، أو حوار مدوٍ، أو قصة لا يخبو صداها سريعاً.
ومن عمل معه يعرف أنه عندما يظفر بصيده عند زميل ما، لا يجد غضاضة في أن يجلس على كرسي هذا الزميل، ليضع بصمته على الغيمة الصحافية، بعنوانٍ مجنحٍ، أو مُقَدِمةٍ أَخّاذَةٍ، وربما أعاد صياغة القطعة كلها، وقلبها رأساً على عَقِبٍ، حتى تكون إلى السيد القارئ، هذا الذي يحترمه جميل كثيراً، لدرجةٍ تجعل القارئ، أكبر سببٍ لجنونه!
استقطاب اليافعين السعوديين
خلال ما يزيد على رُبعِ قَرنٍ من الزَمان، صَعَدَ الذيابي سُلَّم المهنة من الدرجة الأولى، دَرَجَةً إثرَ دَرَجَة، فَأَدَرَكَ قِيمَةَ كل مرحلة، وفَهِمَ مَعنَى كُلَ حَقبَة، وأيقَنَ أهَمِيَةِ دورِ كل عَامِلٍ في بلاط صاحبة الجلالة، ولما استبطن كل هذه المعرفة، انسكب على سلوكه احترام كل من يعمل في حقل المهنة المجنونة، حتى تسنم القيادة، فأطلق لأفكاره العنان، وحرّض كل مبدع على ألا يتوقف عن معاقرة الإبداع، ولا سقفَ لإبداعٍ غير السماء.
أسس جميل، الطبعة السعودية من جريدة (الحياة) اللندنية، فكأنما خَلَقَ جَرِيدَةٍ من عَدَمٍ، رغم ما لـ (الحياة) من إرث مهني، وقيمة تاريخية.
كان الحراك الذي تسببت به «الحياة» السعودية يسلب الألباب ويلوي الأعناق، تَعجباً واستغراباً، حيثُ اختطفت، في سنوات قليلة، مقعداً من مقاعد المقدمة بين الصحف السعودية.
لكأن الذيابي بما قَدَّمَ عبر جريدته الناشئة، وفريقه الغَض، ألقى قِمَةَ جَبَلٍ شَاهِقٍ، في ماءٍ رَاكِدٍ، فُعُدّت صحيفته الدولية، بنكهتها المحلية، الحدث الصحافي الأبرز، آنذاك، الذي أَذكَى جَذوَةَ التنافس بين الصحف السعودية، وأَيقَظَ مَنْ غَشَّاهُ النُعَاسُ فيهِم.
صَنَعَ جميل هذا التميز كُلَّه، باستقطاب اليافعين السعوديين ذكوراً وإناثاً، للعمل في مكاتب «الحياة» بالسعودية، فدبّت فيها الحياة الصحافية، وأَشعَلَ الشَبَابُ بحماستهم قنَادِيل المحبة، التي أضاءت بلاط صاحبة الجلالة.
تحوّلت المكاتب إلى ورش عمل، وميادين تعليم معاً، وخَرَّجَت تِلك التجربة جيلاً صحافياً مميزاً، أصبحَ اليوم، يقودُ المشهد الإعلامي كُله. تميزت تلك التجربة بمزج جميل بين التدريب والتجريب، فما تتعلمه، تُمارسه في ممارستك الصحافية بعد ساعات، وَفُتِحَت الميادين للمنافسة، وكُرِّم المبتكرون، واحتُفِي بصناعة الأفكار، وتحويلها المتقن إلى أعمال صحفية، وفي هذه الأجواء الخلّاقة، تَشَرَّبَ العاملون الجدد في (الحياة) السعودية، بأسلوب (الحياة)، ومنهجها، وطريقتها، ومهنيتها الرفيعة.
تواريخ المرحلة السابقة كانت كما يلي: في 2003 كان المشرف العام على مدرسة (الحياة) الصحافية في السعودية، والخليج العربي، ثم مسؤولاً عن تحرير «الحياة» بجدة، والممثل الإقليمي لها مِن عام 2002 حتى عام 2005.
في العام نفسه أسس الذيابي مشروع الطبعات السعودية لـ«الحياة». ومِن 2004 إلى ديسمبر 2010 تولى منصب المدير العام لتحرير «الحياة» بالسعودية، والخليج.
بين عامي 2008 و2012 أصبح عضواً في مجلس إدارة هيئة الصحافيين السعوديين. وعضواً زائراً في نادي دبي للصحافة، وعضو نقابة الصحافيين البريطانيين، ثم أصبح رئيس التحرير المساعد بـ «الحياة» مِن 2010 حتى يونيو 2015.
وخلال هذه الفترة سَنّ قلمه ليكتب مقالة شبه يومية في الصحيفة ذاتها، شحذ فيها الهمة للدفاع عن وطنه، ومنهج الاعتدال، ومواجهة التطرف، سواء كان دولياً، أو حزبياً، أو فردياً، أو فكرياً.
وفي آخر نوفمبر 2015، كان جميل ينتقل نقلة مهمة في حياته الصحافية عندما تولى رئاسة تحرير صحيفة «عكاظ» السعودية، بعد أن أمضى 14 عاماً، ثرية وغنية في «الحياة».
وحين حطت رحال أبا تركي، الجميل، في «عكاظ»، كان التحدي كبيراً.
بِقَدرِ الكدِّ تُكتَسَبُ المَعالي وَمَن طَلبَ العُلا سَهرَ اللَّيالي
وَمَن رامَ العُلا مِن غَيرِ كَدٍ أضاعَ العُمرَ في طَلَبِ المُحالِ
الورق لن يعود وسيلة الصحافة الأولى، بل إن صحفاً لوّحت تلويحة الوداع، واستأذنتنا راحلة من المشهد. واجه جميل التحدي، صحيفة سعودية ورقية، في مجتمع يدمن التقنية إدماناً، ويتسابق شبابه وهم الأغلبية من سكانه، على ما تقذف به التكنولوجيا الرقمية من جديد على كل صعيد، حتى لا يكاد يسبق السعوديين أحد، في معرفة برنامج جديد أو تطبيق ناشئ أو وسيلة تواصل اجتماعي بدأت تمد رأسها، إنه تحدٍ تشيب له الرؤوس، ولم يمر مثله في تاريخ المهنة! إنه التحدي الأصعب، ولكن... واجه الذيابي تحدياتٍ جمة صغيرة وكبيرة، وهذا واحد منها، أحسبه واجهها سيراً على منهج الفرزدق حين قال:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
حافظ جميل على «جنون المهنة»، إذ يصفه الصديق الأستاذ عثمان العمير بأنه صاحب «الجنون الجميل»... إنه جنون العشاق، فقد رفع السقف للحديث عن موضوعاتٍ لا مبرر للتحفظ حولها، اجتماعية، وفكرية، وثقافية، وهذه ميزة الصحافي الرشيق الذي يسير على الخطوط الحمراء، كما تنتقل راقصة البالية برشاقة من ركن في المسرح إلى ركن فيه قصي وأنت تستمتع بهذا الكائن الذي يشيع المكان فناً وألقاً ورقياً، دون أن تقوده أطراف أصابعه إلى لغم محضور، أو أن يلامس خطاً أحمر، وإن كان يتراقص حوله. من الجميل في جميل أنه يعرف كيف يمسك بالخط الفاصل بين المغامرة الجريئة، والتهور الطائش. يتقن الجمع بين متانة المحتوى، وتشويق الطرح. بين هذه وتلك، تتطور المهنة وتزهر الصحافة، ويجد القارئ أن احترامه وتقديره، هما غاية المآرب في هذه العملية.
وإنْ سألت عن الأسس التي بنى عليها جميل هذه المعادلات، فربما تفيدك هذه المعلومة، فقد حصل الرجل على الماجستير في الدبلوماسية والإعلام مِن جامعة Westminster ببريطانيا عام 2007، وكان موضوع رسالته عن الرقابة والإعلام في الخليج.
باتت (عكاظ) رشيقة القوام، تبدو شابة نضرة في شكلها، دون أن يُنقص هذا من وقارها، تستخدم كل وسائل التقنية للوصول إلى ما يناسب المتلقي، وما يلبي حاجته.
لم ترتخ (عكاظ) أو تلين أمام المنافسة، بل إن ربانها مزج صفحتها الأولى بمواضيع سياسية، وإذا تعرض الوطن لكليمة، جابهت الصحيفة الخصوم بسِنَانِها ورماحها وألسنتها وأقلامها.
لذلك يقول الذيابي: «إن من يحاولون النيل من السعودية، خاسرون لا محالة، لأن السعودية أكبر من أن تُبتز أو تخضع لمناوشات الصغار، وستتحطم الهجمات على صخرة الحقيقة.. الأكيد أن على السعوديين التفاؤل والثقة بقيادتهم، والتلاحم لصد تلك الهجمات المسعورة، فما لا يعرفه الحاقدون أن السعوديين يزدادون صلابة عند الملمات ويقفون طوداً واحداً شامخاً ضد كل من يستهدف بلادهم، وعندما تتعاظم التحديات تتجلى التضحيات، وأبهى صور الولاء واللحمة الوطنية».
العمل وسط التحديات
الذيابي جميل بأدبه، مهذب بأخلاقه، تسبقه ابتسامته التي يرسلها سفيرة لما بقي عنده من سجايا حميدة. ولو أخطأت فلن يسقيك من عتبه، بعطائه لمن عمل معه، بمحبة الذين لهم تاريخ مع صحافته وورشة تدريبه، وقد زرع هذه البذرة، فأينعت وأثمرت، فقط لنقرأ «عكاظ» وصفحاتها لنرى جهد الذيابي ومقدرته وتفانيه من أجل مهنة المتعة والمتاعب والجنون، المستطاب، الذي يصنع المختلف، ويجعل شغفك ينفضك من أعلى رأسك حتى أخمص قدميك، من أجل فكرة خارج الصندوق، أو قصة تلتف لها الأعناق!
شكّل جميل الذيابي، مع رئيس مجلس إدارة عكاظ، الشيخ عبدالله صالح كامل، ثنائياً متناغماً، لم نعهد مثله في مؤسساتنا الصحافية، فانقلب الترصد، دعماً للفرص، وتصيد الزلات، إلى إقالة العثرات، وفق ثقة متبادلة، وأسس أخلاقية وعملية، جعلتهما يعملان في فريق هدفه خدمة المؤسسة، حتى وإنْ كان الظرف صعباً، لكن هناك صنف من الرجال، مثل جميل وعبدالله كامل، لا يستطيبان العمل إلا وسط التحديات... مستلهمين من شاعر العربية الكبير، أبي الطيب المتنبي قوله:
لاستسهلن الصعب أو أُدركَ المني
فما انقادت الآمال إلا لصابر
السفير السعودي لدى الإمارات