إميل أمين
الحديث عن العلاقات الثقافية بين العرب والأتراك حديث تضرب جذوره في عمق التاريخ، لاسيما أن الأتراك دخلوا الإسلام في القرن الثامن الميلادي، ما يمكننا من القول إن هناك أساساً روحياً وثيقاً من التبادل المعرفي والثقافي بين الشعبين، قامت على قواعده تبادلات إنسانية وحياتية لقرون، وتوثقت بعد ذلك بشكل كبير بحلول عام 1516، وعلى امتداد أربعة قرون من التواصل.
وإذا تحولنا إلى توفان غوندوز أحد أهم المؤرخين الأتراك الذين توقفوا أمام طبيعة تلك الجسور المعرفية، التركية العربية، سيشرح لنا كيف أن العرب حملوا الدين الإسلامي، كحاضنة روحية من جهة، وكوِعاء حضاري ومنهج ثقافي من جانب آخر، وفي المقابل، فقد قبل الشعب التركي هذه الثقافة الجديدة عن اقتناع وإيمان، ومن دون إكراه أو فرض.
والشاهد أن أهم عنصر جمع الثقافتين العربية والتركية هو اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، ولغة الآداب والعلوم والفنون العربية.
تبجيل «العربية»
ومن جوانب ثقافية عديدة، فقد عاش الأتراك العثمانيون كأنهم عرب في لغتهم وثقافتهم، ذلك أنهم كانوا يعتبرون اللغة العربية لغة الإسلام والثقافة ولم يضيقوا يوماً بالعرب ولا بالثقافة العربية، بل على العكس كانوا يبجّلون كل ما هو عربي، وانعكس ذلك على علماء الدولة العثمانية.
ولعل الرجوع إلى أضابير التاريخ يخبرنا بأن معرفة اللغة العربية كانت ذات يوم أحد الشروط المطلوبة كي تمنح السلطات العثمانية منصباً رفيع القدر لأحد مواطنيها، وربما يكون هناك أكثر من ذلك، وهو ما يخبرنا عنه البروفيسور عبدالرازق بركات، رئيس قسم اللغة التركية في كلية الآداب في جامعة عين شمس، بالقول إن المتقدم لوظيفة عليا في زمن السلاطين العثمانيين، كان عليه أن يثبت جدارته في فهم قواميس ومعاجم اللغة العربية وبخاصة «القاموس المحيط»، ما يقطع بأن رؤية الأتراك للثقافة العربية رؤية تحمل احتراماً وتقديراً كبيرين لهذه الثقافة وجذورها وفروعها.
الروحانية الإسلامية
ولعل من نافلة القول، إن الثقافة التركية تبلورت في حضن الروحانية الإسلامية، ومن رحم الحضارة العربية، التي تواصلت أيضاً مع الحضارة الإغريقية وغيرها من الحضارات الإنسانية الأخرى السابقة، عبر ترجمة علومها وفنونها وآدابها، ما جعل نصيبها في عقل وقلب كبار المثقفين الأتراك وافر الحظ.
ولعلنا لا نبالغ، إن قلنا إن نسبة المفردات العربية في اللغة التركية، قبل أن تعيش تركيا حالة من التغيرات الثقافية المعمقة في زمن كمال أتاتورك، كان قد بلغ أكثر من 70%، واليوم لا تقل هذه النسبة عن 15%، وهي نسبة ليست بالقليلة في واقع الحال.
علاقات حضارية
ويتفق المفكرون والأكاديميون الأتراك مع نظرائهم من العرب حول طبيعة هذه العلاقات الثقافية والحضارية المتميزة، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، البروفيسور جنكيز تومار، عميد كلية العلوم السياسية في جامعة مروة، الذي يؤكد أن العلاقات الثقافية بين الشعبين التركي والعربي ثابتة دائماً، مهما تبدلت أو تعدلت العلاقات السياسية، ذلك أنها تنطلق من إرث قديم يمتد لنحو ألف عام. وهناك نماذج مشتركة بين العرب والأتراك في الشعر والترجمة، وفي القصة القصيرة والرواية، تقوي أواصر العلاقات الثقافية، وتعزز الجسور الاقتصادية، وتنمّي درجة التعاون المجتمعي على الأصعدة كافة.
علماء مسلمون
وثمة سؤال قد يطرحه البعض: هل كتب الأتراك باللغة العربية من قبل؟
حدث هذا بالفعل، ما يدلل على عمق تجذر لسان الضاد في الثقافة والهوية التركية، وبالبحث المدقق نجد أن العديد من علماء الدولة التركية فعل ذلك، مثل حاجي خليفة المعروف بـ«كاتب جلبي»، صاحب الكتاب العمدة «كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون»، كما نجد أيضاً طاش كبرى زاده صاحب كتاب «الشقائق النعمانية في علماء الدولة الإسلامية»، وهو أيضاً مؤلف كتاب «مفتاح السعادة ومصباح السيادة».
كما نجد على الجانب التركي أيضاً أن هناك مساهمات تركية ثقافية وفكرية متميزة كان لها وزنها في تاريخ الحضارة الإسلامية، ومن أهم الشخصيات التركية التي تركت لنا مؤلفات ثمينة محمود الشغري مؤلف ديوان «لغات الأتراك»، ويوسف هاس حاجب الذي ألف «كوتادكو بيليج»، كما تعتبر إنتاجاتهم الفكرية من الأفضل وتوصف عادة بأنها خرجت في زمن «العصر الذهبي».
عاصمة الدنيا ثقافياً
وعطفاً على ما تقدم، فإن المكتبة التركية، تحوي في واقع الحال، ما لا يقل عن مائتي مخطوطة عربية ألفها علماء أتراك، ولاسيما أن فريقاً كبيراً، من بينهم تأثر بشكل كبير بابن خلدون وترجمت مقدمته في القرن الخامس عشر الميلادي، وقد تركت أثراً واضحاً في رجال السياسة والفكر الأتراك.
ويقدم لنا الباحث التركي فراس رضوان رؤية عن عالم اللغة العربية ضمن الحياة الثقافية التركية، إذ يعتبرها من المقدسات لأنها لغة القرآن الكريم، ولأن الدين الإسلامي جاء بها.
ومن هنا يمكن للقارئ أن يتفهم لماذا اهتمت الدولة السلجوقية (1039-1194)، بنشر اللغة العربية بين الأتراك، حتى أصبحت اللغة التي يتعلمها الأتراك في المدارس، ويتحدثون بها في حياتهم اليومية، متخلّين عن اللغة التي كانت متداولة بينهم في ذلك الوقت والتي كانت نوعاً من أنواع اللغة الإيغورية القديمة، ويذكر كذلك للسلاجقة، أنهم من أوائل الأتراك الذين يمّموا وجوههم شطر بغداد عاصمة الدنيا ثقافياً وفكرياً في ذلك الزمن، وفيها قُدم أول قاموس للغة التركية.
حركة الترجمة
ونجد أيضاً دراسات علمية تركية تشير اليوم إلى وجود أكثر من ستة آلاف كلمة عربية موجودة في اللغة التركية، وأغلب هذه الكلمات تستخدم في الأبحاث العلمية المحكمة، وبعض منها في التعاملات اليومية، وخصوصاً تلك الكلمات التي تبدأ بحرف الميم، وتندرج ضمن صيغ أسماء المكان والزمان والمفعول والمصدر.
وقد يعنُّ للباحث في عمق العلاقات الثقافية العربية التركية أن يتساءل أيضاً عن دور حركة الترجمة بين الجانبين، وهل أثْرت بالفعل ثقافتي الطرفين، وما إذا كانت هناك حاجة إلى تكثيف هذه الحركة التي تفتح أبواب التبادل المعرفي، ولاسيما بين الأجيال الشابة المعاصرة؟
المؤكد أن حركة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة التركية تكاد تكون توقفت، في فترة معينة، عند حدود كتب التراث القديم، ولم تلتفت إلى الكتب الفكرية والأدبية الحديثة، وربما خلق هذا في وقت ما قطيعة معرفية وثقافية بين أجيال القرن العشرين وبدايات القرن الحالي، من الأدباء والمفكرين العرب، الذين لا يعرف المثقفون الأتراك عنهم إلا النزر اليسير.
دور الترجمة
ولكن من حسن الطالع أننا نجد، على الجانب العربي، أن دور النشر في غالبية الدول العربية، قد اهتمت بترجمة الأدب التركي الحديث، وبشكل خاص في حقل الرواية، كما هو الحال مع الكاتب والأديب التركي أورهان باموق، الفائز بجائزة نوبل في الآداب عام 2006.
وهنا ربما أدرك المثقفون الأتراك أهمية ودور الترجمة، ولهذا نجد الشاعر والأكاديمي التركي «أتاكان باووز»، يشير إلى ترجمة حديثة للمعلقات السبع من العربية إلى التركية، ويصف الأمر بأنه محاولة انفتاح من الثقافة التركية على الشرق بقدر انفتاحها على الغرب، ولذا بات من الممكن أن ترى اليوم في المجلات الأدبية التركية مجموعة نصوص لشعراء عرب. ويرى «باووز» أن الأدب الجيد هو الأدب المنفتح على العالم، وهو ما يتفق معه فيه أيضاً الشاعر التركي «دولوناي أكبر»، إذ يقطع بأن الثقافة ليست علاقة مصطنعة، وكل شعب يبني ثقافته بلغته، ويتواصل مع الشعوب الأخرى من خلال هذه اللغة، في مساحة تبادل ثقافي حرة تماماً، وبعيدة عن أي ضغوطات خارجية.
ولعل المتابع لما يجري في داخل أقسام اللغة العربية وآدابها في الجامعات التركية، يستبشر خيراً كثيراً من الإقبال الشديد عليها من طرف الطلاب الشباب الأتراك، ما يعني أن هناك ما يعزز بناء الجسور الثقافية.
التبادل الفكري والفني
وهنالك سؤال آخر أيضاً: هل لعب الإعلام المرئي دوراً في توثيق هذه العلاقات الثقافية بين العرب والأتراك؟
من المؤكد أن السينما العربية، ولاسيما في أوقات المد الإيجابي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، قد تركت أثراً طيباً في ذاكرة المشاهدين الأتراك. وفي العقدين الأخيرين، باتت الحلقات التلفزيونية التركية المسلسلة، التي تتناول أجزاء مهمة من التاريخ المشترك، عاملاً فاعلاً في خلق تجاوب ثنائي بين الجانبين.
وللقارئ أن يضيف إلى ما تقدم عوامل مشتركة أخرى عديدة بين العرب والأتراك على صعيد الحياة الإنسانية، فهناك حسن الضيافة، والتعاطف الإنساني المشترك، كما تبدّى ذلك في المشاعر العربية تجاه الأتراك بعد الزلزال المدمر الأخير.
وفي كل الأحوال، يمكننا القول إن هناك فرصاً واسعة مستقبلية لتعميق البعد الثقافي المشترك، من خلال المراكز الثقافية والعلمية، وتعزيز التبادل الفكري المكتوب والمرئي والمسموع، الأمر الذي يعود حكماً على بقية أوجه التعاون التركي العربي الأخرى في كافة مجالات الحياة.