عزالدين عناية
يطغى على الأدب التركي المعاصر ملمح التنوّع والتداخل، فهو أدبٌ عاكس، بوجه بارز، لِما ينطوي عليه المجتمع من تنوّع في الهويات وتعدّد في المرجعيات. وإن كان هذا الثراء لا يخلو ممّا يميز المجتمع التركي من انفتاح مختلف مكوّناته على بعضها البعض. لقد تجلّت خلال العقدين الأخيرين، أي منذ محاولات تركيا الانضمام إلى المجموعة الأوروبية، الأوجه المتعدّدة لتركيا التاريخية، التي يصعب اختزالها في نمط محدّد أو في حقبة بعينها. وقد أثار هذا الجدل، بشأن الهوية الحضارية، سواء من منظور غربي أو من منظور تركي، العديد من التساؤلات، وأعاد الحديث بشأن الهوية الثقافية لتركيا الراهنة. طُرح، خلال العقدين الأخيرين، سؤال من هي تركيا وضمن أي هوية حضارية يمكن تصنيفها؟ وقد تجلى ذلك في العديد من الأعمال الأدبية والفكرية التي قاربت الموضوع من زوايا عدة، أحياناً متقاربة وأخرى متباعدة.
مفهوم الحداثة
صحيح تقف تركيا الحديثة على أرضية لائكية، وتتميّز باستبطان واعٍ للحداثة؛ ولكن هذا المسار ظلّ يسير بموازاة الهوية العميقة، الدينية والروحية، لتركيا. وهو ما ولّد منظوراً مغايراً لمفهوم الحداثة، قد يلتقي مع ما هو مطروح في الغرب وقد يختلف معه. وقد جعل هذا التباين تركيا تعيد النظر في مفهوم الحداثة ضمن السياق الأوروبي العام. فهل الحداثة هي سياق تاريخي -خارج الهويات العميقة الروحية والدينية- أم هي مزاوجة بين عنصرين كما يصرّ الغرب على ذلك؟ بدا الأدب التركي المعاصر حقل تجريب مشرّعاً على أجناس مختلفة، تجلّت من خلال طروحات جملة من الكتّاب والأدباء والشعراء، ممن طرحوا أسئلة عميقة بشأن الهوية الحضارية لتركيا الراهنة.
عبّر عن هذا التنوع والتعايش، بين رؤى متغايرة، الكاتب يشار كمال (من مواليد 1923) في عدد من رواياته، وتمحور القصّ معه في التعبير عن بناء ذاتٍ مشرعة في غمرة تنوع هائل محيط. وكذلك مع ما ترسّخَ لاحقا مع الخط الروائي لأورهان باموق (الحائز على جائزة نوبل، 2006) بمحاولته الاشتغال في عدد من رواياته على ثيمات تاريخية وثقافية وسياسية مطروحة بإلحاح في تركيا الراهنة. وهي مواضيع، تتراوح بين الحداثة والمحافَظة، والعلمنة والتدين، لم ينته الجدل بشأنها إلى توافقات واضحة. ومن هذا الجانب، يبدو النص الروائي لباموق لسان حال الوضع التركي الراهن، بما يبرز من حالة اللايقين التي تخيّم على الساحة. لكن هوية تركيا الثقافية لا تُختَزل في خطاب ذكوري، بل تتجلى أيضاً مع لفيف من المبدعات، مثل تومريس أويار وسفينتش تشوكوم ولطيفة تكين، ممن يطرحن قضايا تتجاوز في معظم الأحيان معهود الطروحات النسوية المغلَقة إلى استحضار قضايا مجتمعية شاملة تسائل الهوية التركية ضمن سياقها العالمي.
إبداع متدفّق
ولو شئنا تفصيلاً أوفى، بشأن مسارات الحداثة التركية، من خلال الإنتاج الشعري المعاصر، لقلنا إنّ الملمح الطاغي على المشهد الشعري هو فتور الطابع الإيديولوجي وتراجع الشعرية العقدية، وبالمقابل بروز البعد الإبداعي التحرّري، أو لنقل المتخفّف من وطأة الإيديولوجيا والدوغما. وهذا هو الملمح السائد في الشعر التركي المعاصر. إذ يبدو الشعر، في زمن اللايقين، رافضاً للانضواء تحت أي مدرسة أو حركة بعينها. لكن في غمرة هذا الفوران الذي يطبع الحياة الثقافية التركية، ثمة ملمحٌ آخر يميّز المنتوج الثقافي المعاصر في المجال الأدبي، ألا وهو التعايش بين تقاليد ومدارس وروافد متنوعة، تصبّ داخل مسار الفكر التركي الحيّ والمتحرّك. وكأنّ الثقافة التركية في عمومها لا تعبأ بوطأة الزمن، ولا يرهقها التشظّي بأنواعه، اللساني والثقافي. فقد استطاعت الثقافة المعاصرة أن تجمع روافد هذا الزخم لتحوّله إلى إبداع متدفّق بوجهيه النثري والشعري. فمنذ أن أطلّت رواية فرتان باشا «قصة أكابي» (إسطنبول، 1851)، التي صُنِّفت بمثابة أولى الروايات الأدبية، انطوت الرواية التركية على هذا البعد الحضاري المتحرّك. حتى وإن أتى النص مدوَّناً في لغة تركية بالحرف الأرميني، واستحضر التدافع الديني والثقافي وما له من أثر في توجيه الشخصية التركية الحديثة.
فمع تطور وقائع التاريخ التركي المعاصر، تمحورَ التحول الأكبر حول الثورة اللغوية التي كانت أعمق من مجرّد هجران للحرف العربي إلى الحرف اللاتيني. بدا التحول في مستوى الأبجدية تحوّلاً في فهم التاريخ والتعاطي مع مجرياته، بحثاً عن إلحاق تركيا بقطار الحداثة الذي أقلع. ومن ثَمَّ لم تكن الحداثةُ الأدبية التركية حداثةَ جمهوريةٍ تخفّفت من وطأة الماضي، بل حداثة في الرصيد اللغوي وما تضمّنه من لحاق وانفتاح. لكنّ تركيا المتعطّشة إلى روح الحداثة استوجب عليها إنشاء «تركوم بوروسو/ وكالة الترجمة» (1940) بإشراف ثلّة من الأدباء والشعراء والكتّاب من الرعيل الأول، بهدف خلقِ إنسانوية تركية تستجلب معها الأعمال الأجنبية ولا سيما الكلاسيكيات الإغريقية واللاتينية، فضلاً عن الآداب الأوروبية الحديثة. وهكذا تمت، بين عامي 1940 و1966، ترجمة 1120 عملاً من اللغات الأوروبية.
نزعة إيديولوجية
صحيح؛ قبل عقد الثمانينيات من القرن الفائت، طغت على تركيا نزعة إيديولوجية بارزة في التعامل مع الأدب والفكر، سواء على مستوى الإنتاج الداخلي أو على مستوى الترجمة نحو اللغة التركية، ولكن ما إن حلّ عقد الثمانينيات الذي تميّز بقبول تركيا عن طيبة خاطر مسارات السوق العالمية، حتى بدت ملامح الفكر الليبرالي واضحة في الأوساط الثقافية. بدت خاصيات الاستهلاك متجلية في سوق النشر، وأضحى الناشرون الأتراك يسعون إلى تلبية رغبات القراء وفق الجنس الأدبي المرغوب والمواضيع المحبَّذة. وبحسب تقديرات «جمعية دُور النشر التركية» يمكن القول إن تركيا الحالية تضمّ سوقا متطوّرة للنشر، تحفل بأكثر من ألفي دار نشر ناشطة، وتضمّ ما يزيد عن 6000 مكتبة و150 موزِّعاً. وتُشكّل الأعمال المترجمة في هذا الزخم المتطور ما يزيد على 40 بالمئة من المادة المعروضة، لتظلّ اللغة الإنجليزية اللغة الأكثر حضوراً، تليها الألمانية والفرنسية والإسبانية.
لقد لعب الروائي أورهان باموق، منذ عام 2006، دوراً محورياً في حثّ الأوروبيين، والغرب بشكل عام، على الالتفات إلى الأدب التركي المعاصر والعناية بالترجمة من التركية نحو اللغات الأوروبية. حصل ذلك كما حصل في فترة سابقة مع الأديب المصري نجيب محفوظ (نوبل للآداب، 1988) حين نبّه المخيال الغربي للتشوّف نحو الثقافة العربية وتحريك نشاط الترجمة بين الضفتين. فالغرب لا يلتفت لبلدان الهامش سوى تحت الهزات الثقيلة، وإنما الدعوات الخافتة والأصوات الفاترة فهو لا يبالي بها. صحيح كلاهما، محفوظ وباموق، أخفيا ما يعتمل في الساحتين الثقافيتين العربية والتركية، ولكنّهما من جانب آخر أسهما إسهاماً واضحاً في إنهاض الغرب من غفوته تجاه المغاير.
جزر متعدّدة
تبدو الساحة الثقافية التركية بمثابة جزر أدبية متعدّدة، مستقلة ومتّصلة، في الآن نفسه. إذ تسكن التعددية في عمق التعبيرات الثقافية النثرية والشعرية على حد سواء. ذلك أنّ تركيا الحديثة هي وليدة مخيال عريق، وهو المخيال الذي يغذي مختلف التعبيرات الثقافية التركية المعاصرة. ولعل التنوع الفائق في الأدب التركي هو تنوع بحجم الثراء العرقي واللساني والثقافي التي يحفل به البلد. أضف إلى ذلك أنّ الكاتب التركي يعيش تمازجاً بين الشرق والغرب، ينعكس دائماً في أعماله الإبداعية.
ولذلك يصعب أن تجد بلداً ينتمي إلى عالمين وينطوي على ثقافتين، يتمازج فيه رافدان يصبّان في نهر موحد هو نهر الإبداع التركي. ومروراً بيحيى كمال، وأحمد حمدي تانبينار، وناظم حكمت، وفاروق نافز شامليبال، وأورهان باموق، ثمة خيط رابط بين هؤلاء الشعراء والكتّاب، برغم الاختلافات الإيديولوجية الواضحة، هناك استلهام للروح التركية العميقة.
وفي هذا الحراك المتدفق للأدب التركي، تبقى إسطنبول مدينة الشعر والرواية بامتياز، فالمدينة يحتضنها تاريخ حيّ ما زالت تتنفّسه في أزقتها ويطلّ من قصورها. إذ يبدو الأدب التركي، بوجهيه النثري والشعري، برغم زحف الحداثة الهائل على تركيا المعاصرة مأسوراً بسحر المدينة العريقة التي تأبى أن تغادر التاريخ أو تهجر الحاضر، فإسطنبول/ القسطنطينية تبدو وكأنها تناجي مدائن الأوابد مجدها. يراودنا سؤال يحضر في المقارَبات الثقافية للآداب العالمية وهو، ما الذي في وسع الأدب التركي أن يقوله إلى العالم؟ لطالما حاول الغرب -المتحكم بـ«فرامانات» القبول من عدمها لآداب الآخرين- اختزال دور الأدب التركي في مهمة سياسية وأدوار مؤدلجة تخدم مقاصد الغرب الاستراتيجية. وقد نجحت تلك العملية في اختزال مهمة آداب أخرى، في أدوار وظيفية، من خلال تحويلها إلى عنوان جلد ذاتي ومحطات إيزوتيكية، فشلت استراتيجية الاختزال تلك مع الأدب التركي وأضحى تعبيرة شاملة عن هوية شاملة، ولذلك ظلّت تركيا دائماً عنوان المغايرة في المخيال الغربي.