إبراهيم الملا
لا شك في أن اللغة البصرية باتت اليوم هي الأكثر تناغماً مع إيقاع العصر الجديد، والأكثر استحواذاً أيضاً على حواسّ وانتباهات المتلقين حول العالم، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالسينما، والدراما التلفزيونية، وبالصور المتماوجة في أفق متنوع ومتعدّد الأطياف والأنماط والرؤى.
وفي هذا السياق، امتلكت السينما والدراما التركية مؤخراً نصيب الأسد من الاستقطاب الجماهيري لنوعية خاصة من الأفلام والأعمال التلفزيونية، تجاوزت النمطين اللذين سادا طويلاً من خلال منصات «هوليوود» و«بوليوود» أي من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، فجاءت النتاجات البصرية التركية في منتصف هذا التوازن الحرج بين الجانبين، وقدمت صيغة مختلفة ومستقلة، سواء على مستوى المواضيع والقصص والثيمات السردية، أو على مستوى التعبير الفني ذي المواصفات المرتبطة بثنائية التاريخ والواقع، وباتت هوية الفيلم التركي ممزوجة بجماليات المكان، وبالحكاية المحلية الخالصة والمتخلصة من عبء التغريب، والانجراف والميل المبالغ به إلى تقليد ومحاكاة التجارب الدرامية والسينمائية الأخرى.
قوة ناعمة
لقد طورت الفنون البصرية التركية أساليبها وخطاباتها بشكل تدريجي منذ بدايات القرن العشرين من خلال إرهاصات كبرى وتحولات عميقة جعلتها اليوم واحدة من أهم عوامل القوة الناعمة المساهمة في تغيير المفهوم الجيوسياسي واستثماره في التنمية الاقتصادية، والسياحة الثقافية، والصناعة الإبداعية. ويعد الفيلم الوثائقي بعنوان «انهيار النصب الروسي في آيا صوفيا» الذي صوّره فؤاد أوز قيناي عام 1914، أول فيلم سينمائي تركي، وكذلك فلم «زواج همت أغا» الذي بدأ تصويره عام 1914 واستكمل في عام 1919. كما تم في الفترة ذاتها تصوير أفلام إخبارية عن الحرب العالمية الأولى، إلى جانب ذلك تم إخراج أفلام أخرى، انتمت في الغالب للطابع التسجيلي البحت.
خرجت السينما التركية بداية من معطف المسرح، الذي ظل لفترة طويلة فارضاً لشروطه وبنيته على الأسلوب السينمائي التجريبي آنذاك، وتحديداً بين عامي 1896- 1945 حيث وصل عدد الأفلام المنتجة (ما بين الوثائقي والروائي) إلى 50 فيلماً، وكانت السنوات بين 1939 و1950 فترة انتقالية للسينما التركية، تأثرت خلالها بشكل كبير - كما أشرنا - بالمسرح، وكذلك بنتائج الحرب العالمية الثانية، في حين لم يكن هناك سوى شركتين للأفلام في عام 1939، ارتفع العدد إلى أربع شركات بين عامي 1946 و1950، أما بعد عام 1949، فقد تمكنت السينما التركية من التطور كشكل فني منفصل، مع مواهب أكثر احترافاً. وشهدت السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات ذروة الصعود السينمائي في تركيا، وامتد أثرها إلى خارج الحدود، من خلال تقديم الأفلام التجارية والأخرى المستقلة التي اعتمدت على سينما المؤلف الموزعة على ضفتيّ الواقعية والحداثة، وهذه النوعية من الأفلام بالذات هي التي شاركت في المهرجانات الدولية مثل كان وبرلين وفينيسيا وغيرها، وكان اسم (يشلكام) والتي تعني بالتركية (الصنوبر الأخضر) هو الاسم المرادف لصناعة السينما التركية على غرار هوليوود في السينما الأميركية، حيث كان مقر (يشلكام) في شارع الاستقلال في منطقة «بيوغلو» في إسطنبول، وكان يحتضن العديد من الممثلين والمخرجين والتقنيين والأستوديوهات المتخصصة.
بلغت (يشلكام) أوجها من الخمسينيات إلى السبعينيات، حيث أنتجت 250 إلى 350 فيلماً سنوياً. بين عامي 1950 و1966 ومارس أكثر من خمسين مخرجاً فنون السينما في تركيا، وقد أثّر المخرج (عمر لطفي عقّاد) بقوة على هذه الفترة، وتوّجت هذه المرحلة بحصول فيلم (الصيف الجاف) للمخرج متين إركسان على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي عام 1964.
جغرافيا فنية
زاد عدد رواد السينما وعدد الأفلام التي تم إخراجها بشكل مستمر، خاصة بعد عام 1958، أما في الستينيات فتضمنت برامج أقسام المسرح في كليات اللغة والتاريخ والجغرافيا بجامعة أنقرة وجامعة إسطنبول دورات سينمائية، وكذلك اهتمت الصحافة والمطبوعات بصعود الفن السابع في البلاد، كما تم إنشاء فرع للسينما في قسم تاريخ الفن بأكاديمية الدولة للفنون الجميلة.
في عام 1970، تم إنتاج ما يقرب من 220 فيلماً، ووصل هذا الرقم إلى 300 فيلم في عام 1972. وقد شهدت السينما التركية ولادة نجومها الأسطوريين خلال هذه الفترة.
أما في الألفية الجديدة، فقد ساعد النجاح الباهر للمسلسلات التلفزيونية التركية حول العالم في ازدهار قطاع الترفيه وتحقيق أرباح كبيرة، ولكن بصرف النظر عن الإيرادات المالية الضخمة لهذه الدراما ذات الخصوصية المكانية والتعبيرية، فقد ساهمت المسلسلات التركية في لفت نظر العالم إلى جغرافيا فنية مختلفة يتناوب في تشكيل فضاءاتها ومساراتها صوت الماضي، ورائحة الأجواء الروحانية، وضوء العرفان الديني، إضافة للقضايا الذاتية المتقاطعة مع وقائع المكان، وسرديات الوجود، وإشكاليات الحاضر.
ثمة إغواء محبّب في السينما والدراما التركية جعل أنظار المشاهدين في أصقاع القارات المختلفة، تنتبه لخيالات تخترق الأزمنة، وقابليات مختلفة شكلاً وموضوعا عما هو مكرس ومتداول في التيارات والمناهج الفنية الأخرى، ففي أفلام للمخرج والمؤلف التركي نوري جيلان مثلاً، نرى التوجّه النقدي للفوارق الاجتماعية، ومن دون لجوء للخطاب المباشر، فهناك إحالات وإسقاطات في أفلامه تسعى برفق جارح لتفكيك التراتبية الطبقية والبيروقراطية المستندة على الهيمنة (الذكورية - الأبوية) وسط ثنائيات تبدو متجانسة من الخارج، ولكنها من الداخل تنطوي على عقد وإشكالات، وحدها الصورة السينمائية تستطيع أن تكشفها وتحلّلها وتقرأها من أبعاد جديدة، مثل علاقة الأزواج، والآباء والأبناء، والأغنياء والفقراء، وغيرها من الثنائيات المتداخلة وسط شبكة معقدة من تناقضات الاتصال والانفصال، والعزلة والاجتماع، والحب والاحتراب، ونذكر من هذه الأفلام التي قدمها (جيلان): «ثلاثة قرود» عام 2008، و«حدث ذات مرة في الأناضول» 2011، وكذلك فيلمه: «بيات شتوي»، والتي حازت جوائز عالمية في مهرجانات مختلفة، وذلك بسبب خطابها الإنساني المهتم بإيصال صوت وصورة الغربة الذاتية وسط إملاءات الخارج بتحولاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية العنيفة والصادمة.
عبور الحدود
الآن، تستهلك أكثر من 100 دولة، بما في ذلك دول في أوروبا وأميركا الشمالية، نحو 150 مسلسلاً تلفزيونياً تركياً. ينتج سوق هذه السلسلة أكثر من 350 مليون دولار من عائدات التصدير لتركيا، وهذا الرقم لا يشمل عائدات السياحة الناتجة عن زيارة المشاهدين لمواقع تصوير الأفلام والمسلسلات، ومع ذلك، فإن المساهمة الحقيقية للمسلسل التلفزيوني ليست اقتصادية بل جيوسياسية، تساعد مساهمة المسلسل في الترويج للعلامة التجارية التركية في الخارج، وبناء خيال جيوسياسي على الصعيدين المحلي والدولي، حيث يتشكل الخيال الجيوسياسي في نطاق ذهني وتفاعلي يتعدّى الترفيه والمتعة؛ لأن أغلب هذه المسلسلات يعيد بناء وعي المشاهد، ويسعى لتكوين سردية تمس تاريخاً عريقاً لبلد يحاول أن يستعيد حضوره في العالم كمركز للثقافة والفنون والعمارة والتوجه العرفاني المتسامح والمتعايش مع الأعراق والمرجعيات كافة. تخطّت السينما والمسلسلات التركية الحدود الجغرافية والثقافية في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، خصوصاً مع ظهور أفلام ومسلسلات تتوافر على جودة عالية تقنياً، وعلى قوة موضوعية، وحبكة فنية تجمع بين الإيقاع البصري الطاغي، والموضوع المشوّق والجاذب بتسلسله وبطبيعة ونوعية الشخصيات المنفّذة للنمط الافتراضي في القصة والسيناريو، ونذكر من هذه الأعمال فيلم (وادي الذئاب) بجزئيه.
أما مسلسل (قيامة أرطغرل)، فهو عمل تاريخي تقع أحداثه في القرن الثالث عشر الميلادي، ويعرض مقدمات ودوافع تأسيس الدولة العثمانية، مع عرض لسيرة القادة المساهمين في تغيير مسار التاريخ في تلك الحقبة البعيدة والتي ما زالت آثارها حاضرة إلى اليوم، وقد شاهد المسلسل بأجزائه المختلفة نحو 3 مليارات مشاهد في العالم، وبث عبر شاشات في 71 دولة، مدبلجاً إلى 25 لغة مختلفة، وبلغت إيراداته نحو مليار دولار.