إبراهيم الملا (الشارقة)
في عرضٍ نال إعجاب وتفاعل جمهور الدورة 23 من مهرجان أيام الشارقة المسرحية، قدمت فرقة «جمعية كلباء للفنون والمسرح» تساؤلاتٍ وجودية صارخة حول السيرة المبتورة أو الناقصة أحياناً للحياة، والتي قد يحاول الإنسان ترميمها وإكمالها بنضال تراتبي طويل، يبدأ من فترة ما قبل الولادة وصولاً إلى الشيخوخة، وهو ما زال محاصراً بالنقصان وما زالت أحلامه جائعة، وأمنياته تطمح للمزيد.
حمل العرض عنوان: «قائمة الخدّيج» وهو من تأليف: علي جمال، وسينوغرافيا وإخراج: عبدالرحمن الملّا، وشارك بالعرض كل من الممثلين: محمد جمعة، وعادل سبيت، وعبير الجسمي، وغريبة القايدي، وسامية تاسفاروت.
لجأ المخرج لحيلة سينوغرافية ذكية تمثّلت في توزيع الثقل المركزي للعرض على جانبي الخشبة في معظم المشاهد، بعد إشغاله لمنتصف الخشبة في المشهد التأسيسي كي يحتّله ديكور معلّق بداخله طفل على وشك الولادة، والذي يخاطب والديه بشكل افتراضي، راجياً متوسلاً ألاّ يولد مبكّراً، حتى لا يكون ناقص النمو، وينضم لكثيرين مثله من الأطفال الخدّج، الذين تخذلهم أعضاؤهم في فترة لاحقة من أعمارهم! ويتدرّج الحوار الافتراضي بين الطرفين ويتنقّل من حيّز الخوف، إلى حيّز التساؤل، وبمن بعدهما إلى حيّز السخرية وكوميديا الموقف، وكان لأداء الممثل الشاب (محمد جمعة) دور قوي في إيصال مضامين النص للمتلقي، حيث أتقن تجسيد شخصية «إنسان» -الاسم الذي أطلقه عليه والداه- منذ وجوده في المشيمة التي نجح المخرج عبدالرحمن الملا في تشكيلها بصرياً بحرفية ومرونة ساهمت في تطور الأداء التمثيلي لكافة المشاركين بالعرض، وكان الممثل الرئيسي (محمد جمعة) أكثرهم سطوعاً وأكثرهم ملأً لمساحة الأداء، خصوصاً أنه تنقّل بين حالات وأعمار وانعطافات نفسية متعددة حاول فيها تنفيذ أجندته أو قائمته الخاصة المتمثلة في سبعة بنود ينفذها جميعاً إلاّ البند الأخير، ملخصاً بذلك مسيرة الحياة ذاتها، متجاوزاً معاناة الأطفال الخدّج، ومتماساً مع معاناة كل البشر، الذين يكافحون في المسيرة الشاقّة للوجود، ويعاينون الأرباح والخسائر، والآلام والأفراح، والنجاحات والانتكاسات، قبل أن يعودوا مرة أخرى لرحم الأرض، وكأنها الحلقة الدائرية التي ينخرط فيها الجميع، بمختلف فئاتهم ومرجعياتهم وأطيافهم، ولتظل المسافة بين نقطة البدء (الولادة) وبين نقطة الانتهاء (الموت)، هي المسافة الشاغلة لحيرة الإنسان إزاء كينونته، وانكشافاته على الذات والآخر، وعلى الواقع أيضاً وما يقبع خلفه من رؤى وخيالات وسحر وغموض.
تساؤلات الفلسفية
احتشد العرض بالتساؤلات الفلسفية العميقة، وبالتشريح النفسي للشخصية الرئيسية في مراحل عمره التصاعدية، والتي استطاعت من خلال مونولوجات شائقة وعبارات شاهقة أن تضيء على التوتر الأقصى لتمزّق الذات البشرية بين تطلعات الروح وعجز الجسد، والوهم والحقيقة، وغيرها من الثنائيات المُطرزّة لنسيج حياتنا.
كما استطاع العرض من خلال ديكوراته المتحركة وإضاءته المصمّمة بتقنيات سينمائية، أن يتناغم مع خطاب العرض، ويقدم للجمهور عملاً مرشحاً بقوة للفوز بعدد من جوائز المهرجان، وفي مقدمتها جائزة أفضل تمثيل رجالي المتوقع أن يترشّح لها بقوة الفنان الشاب محمد جمعة المتميّز في أدائه الارتجالي، وقوة حضوره على الخشبة، وثقته بإمكانياته، واندماجه الكامل مع انتقالات العرض المتنوعة مشهدياً وسرديّاً.