الحسن ولد المختار
ما الذي يمكن قوله بعدُ عن فيروز، جارة القمر، أيقونة الطرب والسماع.. الأسطورة المستمرة منذ أكثر من ستين عاماً، حضوراً وغياباً، نصباً تذكارياً حياً لكل فن رفيع بديع، وكل غناء عربي أصيل وصوت رقيق جميل؟! فيروز.. أرزة لبنان الشامخة.. السامقة نصباً تذكارياً حاضراً في زحمة الغياب.. صدى صادحاً.. وفجراً فنياً صادقاً.. بصوتها الشجيِّ، وفنها الملتزم، وعطائها الثرِّ، وصفاء فضاءات عوالمها الفنية الشعرية، الحانِية القريبة، المؤتلقة الشفافة، كثريّات الكريستال! ما الذي يمكن قوله، بعد كل ما صدر عنها من مؤلفات أدبية ونقدية، وسيَر فنية ووطنية، ومدوَّنات إطراء واحتفاء غزيرة.. كثيرة؟! فيروز نجمة الكوكب الرحباني، فيروز ملحمة الإبداع والغناء.. نغمُ الفصول الأربعة.. تقويمٌ فني قائم بذاته! فيروز سفيرة المحبة، سيدة الوقت، شِعرية الصوت والصمت.. فيروز الحداثة والثقافة والهوية.. عصفورة الشرق.. سفيرتنا إلى النجوم.. نجوى الغروب.. وتر الإفاقة.. عزف الإشراقة.. الاسم الفني لأحلام البسطاء.. ملحمةُ الشعرِيةِ ومُلهِمة الشعراء.
ما الذي يمكن قوله بعد عن فيروز، وهل غادر الشعراء عنها أي مجالٍ لمقال؟! لقد قالوا عنها كل شيء.. ولم يقولوا عنها أي شيء.. فيروز مدونة شعرية مسطّرة في البياض.. نص مفتوح.. ملحمة برسْمِ الكتابة.. لحن شجي خالد لا ينقطع! معزوفة عصيّة أبيّة على الاكتمال.. أسطورة من هذا الزمان.. ترنيمة مندلقة متدفقة في منامات البسطاء وإلهامات الشعراء.. قال الشاعر أنسي الحاج: «ليتني ألمس صوتها»! وحين لمسه.. قال لسان الحال.. على لسانه: «بعض الأصوات سفينة وبعضها شاطئ وبعضها منارة، وصوت فيروز هو السفينة والشاطئ والمنارة. هو الشعر والموسيقى والصوت، والأكثر من الشعر والموسيقى والصوت، حتى الموسيقى تغار منه».. وقال نزار قباني: «غنت فيروز مُغرّدة.. وجميع الناس لها تسمع». وزاد: «قصيدتي، بصوتها اكتستْ حلة أخرى من الشعر»! وقال محمود درويش: «فيروز هي الأغنية التي تنسى دائماً أن تكبر، هي التي تجعل الصحراء أصغر، وتجعل القمر أكبر». وقال محمد الماغوط: «حين يأتيني صوتها أغدو ذلك الآخر الذي يراقِص برَدَى بدلاً من هوايتي القاتلة في مراقصة العدم»!
ومثل الشعراء احتفى بإبداعها كذلك الفنانون ورفعوا في وجهها القناديل عالية، فقال موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب: «فيروز معجزة لبنانية، لم يعرف الغناء صوتاً أرقّ من صوت فيروز ولا أجمل. إنها خيوط الحرير، إنها أشعة الفضة»! نعم.. فيروز الصوت الذي ظل ينضح شعراً حتى باتت سيدته «شاعرة الصوت».. وهذا الصوت في عصرنا عنوان آخر للوطن.
وطن اسمه فيروز
واحتفاءً بفيروز، اللحن والفن والفكرة والوطن، يأتي هذا الكتاب الذي أصدرته «مؤسسة الفكر العربي»، في طبعة فخمة أنيقة، تحت عنوان شعري كاشِف: «وطن اسمه فيروز»، تكريماً لفنانة لبنان وشجرة أرزه الباسقة في عيد ميلادها الثامن والثمانين. وقد جمع الإصدار بين دفتيه مجموعة مقالات متميزة، لكوكبة من الكتاب والشعراء والفنانين العرب واللبنانيين، نظر كل منهم من زاوية خاصة لظاهرة فيروز الفنية، ومدرسة الفن الرحباني، التي رفدتها ورافقتها طيلة مسيرتها الفنية. كما نظروا للفن، بصفة عامة، بوصفه أداة مُثلى للتعبير عما يختزنه الإنسان من طاقات الإبداع الخلاق التي تتجسد في روائع تقاوم عاديات الزمان وتعصى وتتأبَّى على النسيان.
ولعل مما يميز هذا الإصدار الخاص عن فيروز والرحابنة، ويزينه ويزيده عن كل ما كُتب عنها من مؤلفات ومدوّنات وأشعار واحتفاءات، أنه يتحدث بضمير الجمع، و«لا ينسب إلى مؤلف واحد، ولا ينحصر في بلد عربي بعينه، ولا في نوع كتابي معين. فهو عمل جماعي، ينتمي المشاركون فيه إلى مختلف الدول العربية، ويضم بين دفتيه، في سياقات مؤتلفة ومتكاملة، دراسات ومقالات تتسم بطابعها البحثيّ ومنحاها الأكاديمي ومضامينها الفكرية، وشهاداتٍ يغلب عليها الطابعُ الذاتيُّ والخواطر التأملية، وتتجاور على امتداد صفحاته مناهجُ التوثيق والتحليل والتقييم».
فيروز اللحن.. والوطن
ويتوقف مؤلفو هذا العمل، الواقع في 351 صفحة، طويلاً أمام سيرة ومسيرة فيروز، منذ ولادتها (باسم نهاد وديع حداد) في زقاق البلاط ببيروت سنة 1935، وتعلقها بالغناء منذ طفولتها، وصولاً إلى ظهورها الفني الأول بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وارتباطها فنياً، وعائلياً، بالفنان عاصي الرحباني، وأخيه منصور، ثم ابنها زياد، وما أنتجته مع هؤلاء الرحابنة من أعمال فنية ومسرحية غنائية، تعد بالمئات، حملت صوتها الدافئ إلى كل بيت عربي، وفتحت أمامها أبواب الانتشار والشهرة مُشرعة منفسِحة.. سفيرة فنية للعرب ولبنان.. على امتداد المدى في كل مكان.
ومع مرور الزمن وتوالي الشجن وتكالب المحن صارت فيروز، فناً ولحناً، بمثابة وطن رمزي بديل جامع «للبنانيين بعدما عز الوطن المادي وامتنع، وطن مثالي.. فحين أتى على اللبنانيين حين من الدهر أقاموا فيه كرنفال الدم والإفناء المتبادل، تمزّقت الروابطُ والجوامع بينهم، وانهدّت أركان الدولة وتهشَّشت أساساتها.. لم يكنْ قد بقي من جامع واحد بين اللبنانيين يعتصمون بحبله ويستمسكون سوى السيدة فيروز، ومن خلفها التراث الرحباني الثر، الذي بنى لهم وطناً بديلاً يلجؤون إليه عند المُلمّات والمُدلهمّات».
وهكذا «على مدى أكثر من 60 عاماً صارت فيروز صوت اللبنانيين والعرب وضميرهم في مختلف ظروفهم وأحوالهم الخاصة والعامة، إذ غنّت للحب والفراق والطفولة والقرية والغياب والفقدان والزمن الذي لا يعود، بقدر ما غنت للأرض والوطن والسلام».
وغنت للحب والأطفال والحزن والفرح والأم والوطن. وبهذا التنوع والثراء الإنساني الباذخ في فضاءات الكلمة والمعنى والمغْنَى، طرباً وسماعاً ومسرحاً غنائياً، تكرّست وترّسخت فرادة فن فيروز والرحابنة، وصارت الصيغة الرحبانية- الفيروزية متفردة في تاريخ الموسيقا والغناء العربيين، وتنزّلت منه منزلة القلب والصدارة والمثال الرفيع.
موارد الحداثة
لقد دخلت فيروز بفنها والتزامها، واستعصائها على التوصيف والتعريف، والاستقطاب والتصنيف، تاريخَ وطنها، وتاريخ الفن العربي، من أوسع الأبواب، وأصبحت اللحظة الفيروزية- الرحبانية لحظة متسامِية متسامِقة عابرة للطوائف والاستقطابات.. مؤسِّسة للالتزام والتعايش والتسامح والاحترام، وملهمة لكل حداثة وفجرٍ مُشرق آتٍ بديل. وهذا ما تتبعت بإفاضةٍ وإضافةٍ جوانبَ كاشفة منه مقالاتُ ومقاربات الكتاب، وهي تعيد قراءة هذه الظاهرة الفنية المتفردة، في تاريخ الفن والثقافة العربية فقد «تنزّلَتْ من ذلك التاريخ منزلة اللحظة الأعلى والأغنى فيه: اللحظة التي زود فيها الإنتاج الرحباني- الفيروزيُّ الثقافةَ العربية بواحد من أخصب موارد الحداثة فيها، وقدّم للذائقة الجمالية العربية من المادة الإبداعية ما به ترتقي وتَنْصَقِلُ وتَسمُقُ قدرتُها إلى حيث تقوى على أن تأْلَفَ لغةً موسيقيةً جديدة وطرائقَ في الأداء جديدة».
سردية بصرية
والكتاب إلى جانب إثراء وإغناء سردية فيروز البصرية بعدد غير قليل من اللوحات الفنية، يغوص أيضاً في ثنايا وحنايا فنها، مبرزاً خصائصه الموسيقية والإبداعية. وهو فن صهر الموارد الشعرية، واللحنية، والأدائية، في سبيكة واحدة. فن «يجمع بين أصالة التعبير عن غنى موسيقاه الشرقية، وفلكلوره الشعبي المحلي، ومقاماته العريقة، وبين لغة موسيقية أوركسترالية حديثة ذات نفَسٍ كوني عابرة للتراثات»، وعابر للغات والثقافات.
ويتوقف الكتاب بتعمق وتمعُّن وإعجاب أمام هذا الفن الذي اجتمع فيه ما تفرّق في غيره من فنون من صور الإتقان والإبداع، و«هذا الألق والتبذُّخ في الأداء لا يقوى عليه الأذكياء من الفنانين فقط، بل من درجوا منهم -تحديداً- على مناقبيةٍ فنية مميزة: الاحترام الحازم للعمل الذي يقومون به، والاحترام المقرون بحيازة ثقافة موسيقية رفيعة، والتشبُّع بها إلى حد إرهاف الحساسية الجمالية».
وهكذا «يتفرَّد صوت السيدة فيروز بكل ذلك الجلال والبهاء الذي تفرّد به حتى في دائرة الأصوات الكبيرة في الغناء العربي بين منتصف القرن العشرين وسبعينياته: حين كان هناك أصوات جليلة، وحين كان لدى العرب غناءٌ وفن وذوق: قبل ميلاد زمن التفاهة في الأربعين عاماً الأخيرة».
وربما كانت مشكلة التراجع المريع للفن الرفيع، والتدنّي الدراماتيكي في كل أشكال الإبداع، أيضاً ظاهرة عالمية، فتحْتَ عنوان «صقيع الثقافات»، كتب المخرج الهوليوودي ديفيد لين.. «عن الزلزال الذي أحدثته الشبكة العنكبوتية في الثقافات».. وهو واقع فني تتسامى وتتسامق عن استعصاءاته الإبداعية، فيروز بفنها الأصيل وإبداعها المتواصل، نغماً ولحناً، المتدفق ألقاً وجمالاً كشلالٍ آسرٍ من الزهور.