نوف الموسى (دبي)
تشرعُ القصيدةُ أبوابها للمعنى، وتفيض بالأشياءِ كنافورةٍ جارفة، حلمت بالمحيط الواسع وامتدت، كتبها الشاعر في لحظةٍ عابرة، وتتبعتها أصوات الأرض وقد مالت، نحو الشمس واستقامت، ودنا ربيع الولادات ولاحت حكايات الأمهات، ونجا الطفلُ من المرويات وسال السؤال من العيون، لا إجابات، سوى الخيال، به نجونا، وبه يمر الشعر، وبين يديه ضحكاتنا المفقودة، وأسرارنا الكامنة في الروح، هكذا أراد الشاعر الإماراتي الراحل أحمد راشد ثاني، أن تكتبنا القصيدة، محاولاً أن يدس عشق الحياة في الأوصاف والكلمات وشاعرية الأحداث. ومهما تسرب الألم في موسيقى السياقات الجمالية والإيقاعات الغنائية للحوارات الشعرية، فإن من العدالة أن تذوب في حضرة الدهشة، وتستكين الروح بعدها. ويتحدثُ الشاعر والباحث الإماراتي خالد البدور، في الأمسية الاحتفائية بأيام أحمد راشد ثاني، في مكتبة محمد بن راشد، ممسكاً بمنارة مسيرته الأدبية، قائلاً: كتب كل شيء بروح شاعر، ملتقطاً اللحظات والمشاعر الدفينة، يعود إليها عبر الذاكرة، ليستلهم منها مفاتيح لرؤى متعددة بطابعٍ خاص، تتسم بالتفرد في توسيعها لاحتمالات التجربة الإنسانية، إنها المخاطرة الأجمل، في أن تحمل روحك إلى سرمدية الصفحة البيضاء وتعيد قراءتها بانسجام الكلمة تارة، وصراع الشعور تارةً أخرى.
مكان للقصيدة
بينما وقف الشاعر الإماراتي أحمد العسم، على الظلال البعيدة لفعل قصيدة الشاعر أحمد راشد ثاني، وهي تُشكل نفسها في الوجود مئات المرات، وفي كل مرة، تنتظر شاعراً جديداً يكتب من أجلها لتعود أشعاره إلى البيوت، وتُزرع من أجله الأشجار والعهود، تُسقى من ماء السبيل، وتروينا جميعاً في الأعياد الضاجة بالمسرات والطقوس، ومواعيد الفقد وحاجتنا الملحة للسكون، ومن هنا يسرد لنا الشاعر أحمد العسم، كيف أنه عندما كان يعيش ظرفاً صحياً صعباً، أهداه الشاعر أحمد راشد ثاني وسادة، بدلاً من تلك التي يستند إليها في المستشفى، ليضمها إليه من بعد ذلك أينما حل، أمام البحر، وتحت الجبال، وبالقرب من شجرة غاف أو سدرة، فالعالم أجمع وسادة الشعراء، ولا بد أن نختار مكاناً للقصيدة.
بداية الثمانينيات في مجتمع الإمارات، لا تزال الفترة الزمنية الأكثر بحثاً وسرداً لبزوغ الشعراء وحداثة القصيدة، وتلاقح المخيال والمرويات، وحولها يصف الشاعر خالد البدور، طبيعة علاقته بالشاعر الراحل أحمد راشد ثاني، عندما درسا معاً في جامعة الإمارات، هناك حيث أسسوا فرقة مسرحية، وكتب لها الشاعر أحمد راشد ثاني نصوصاً. وفيها كذلك قام بإصدار مجموعة لقصائد شعراء شباب، طبعتها الجامعة.
مسيرة استثنائية
ولا ينسى الشاعر خالد البدور عندما ذهبوا إلى أول نسخة لمعرض الشَّارقة الدوليّ للكتاب، وذكر كيف ساعدوا الناشرين في حمل كتبهم، للحصول على كتب مهمة مجاناً، لقاء ذلك. وطوال حديث الشاعر الإماراتي خالد البدور، وتتبعه لخيوط التحولات المشهدية للقصيدة والإنسان في مسيرة الشاعر أحمد راشد ثاني، ركز على الموسوعية التي عُرف بها الراحل، إلى جانب المقومات المنهجية في توثيق أحمد راشد ثاني للمسيرة الاستثنائية لشاعر الإمارات الماجدي بن ظاهر، وكذلك تأثره بالملامح العامة للقصيدة في جيله خلال تلك الفترة.
«يتبعه شعراء يركضون، أحلامهم تتبعهم، الأصدقاء، بمزاجٍ عالٍ، يجلسون في الصالة، يقرؤون، نص يليق بالفرح لقلوبهم، الهيمنة الواسعة، على الليل ما يشغلهم، حيث يريد الشعر»، هنا قصيدة أهداها الشاعر أحمد العسم للشاعر الراحل أحمد راشد ثاني، أُلقيت على جمهور الأمسية الاحتفائية، الذين تنفسوا الصعداء بعد كل موقف يسمعونه عن الشاعر أحمد راشد ثاني الذي كان لا يكتفي فقط بتقديم الوسائد، بل كان يتحول هو بنفسه إلى وسادة وأكتاف يستند إليها الأشخاص، بعد تعب طويل. وفي السياق ذاته، قالت نورة محمد أحمد راشد، كونها تنتمي لعائلة الراحل أحمد راشد ثاني: أعتقد أن أحمد رحل سريعاً، وأن هناك الكثير مما كان يستطيع تقديمه، ربما عرفتم أحمد الشاعر، إلا أن علينا أن نُدرك أحمد الإنسان، وأن نكتب تلك الإنسانيات التي قدمها في مواقف ربما لا يعلم عنها أحد، كانت بمثابة مصابيح ضوء راسخة على «السيفه» بجانب البحر، منتظراً عودة الحياة في المحبين والأقارب وحتى الغرباء، مثلما هي نوافد بيوت «حي المديفي» بمدينة خورفكان «مسقط رأسه»، ففيها يفتح أُناسها «درايش» المنزل لمواجهة البحر والسلام على أرواح أهلها العابرين منها وإليها.
على الباب موجة
شهدت فعالية «أيام أحمد راشد ثاني»، على مدار يومين، إلى جانب الأمسية الاحتفائية، جلسة ناقشت كتابه «على الباب موجة»، وأمسية شعرية خاصة تحت عنوان «بحر سدرة وغيمة» للشاعرين شيخة المطيري، وحسن النجّار، لقراءة مجموعة مختارة من قصائد الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني، إيماناً بالدور الريادي للراحل في إثراء الحراك الثقافي المحلي بدولة الإمارات.