الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

العصر الرقمي وفلسفة التقنيات!

العصر الرقمي وفلسفة التقنيات!
9 فبراير 2023 02:14

د. أمّ الزين بن شيخة

لا أحد بوسعه اليوم أن يفلت من قبضة العالم الرقميّ الذي يحيط بنا في كلّ مكان. إنّنا نودع فوق سطوحه كلّ أشكال غسيلنا وخصوصاتنا، ونوكل إليه صناعة ذاكراتنا، ونتوسّله كلّ لحظة لكي يحرّرنا من جهلنا أحياناً حول بعض أشيائنا الصغيرة، حول أجسادنا وأمراضنا والفيروسات الجديدة التي تهدّدنا. حول العالم الكبير، وحياة الكوسموس وحكاية الثقوب السوداء والخريطة الجديدة لأجرام السماء! 
وحين يأتي المساء نختلي بحواسيبنا أو هواتفنا كي نقضي معها معظم أوقات راحتنا.. نتواصل مع حبيب أو وليد.. نتقاسم قصائدنا وخواطرنا وصورنا وحكاياتنا ونجاحاتنا على صدر العالم الرقمي!. ما أرحب ذاك الصدر فهو يتّسع للحمقى والمغفّلين والعظماء والتافهين والمتألّمين والمتطفّلين والمشعوذين أيضاً.. 
وعلى صدر العالم الرقمي ينام العشّاق على حلم أجمل أو على فراق.. وبين تضاريسه الافتراضية تولد السياسات واللوبيات.. وهناك قد تتمّ سرقة المعطيات وتصبح الذوات متاحة ومباحة.. وتنتهي أسطورة الأسرار ومساحة الشخصيّ جدّاً.. وتتقلّص المسافات والمساحات.. وتسقط الفواصل الجغرافية بين البشر.. والزمان أيضاً يتّخذ إيقاعاً جديداً. 

لقد أنهى العالم الرقمي العائلة التقليدية، وصار أصدقاؤنا الافتراضيون كأنهم هم عائلتنا.. وتخلى عنّا أبناؤنا أحياناً من أجل قصصهم الافتراضية وعلاقاتهم الرقمية.. لا أحد منّا يوجد وحيداً ولكن لا أحد يوجد فعلاً مع الآخرين أيضاً.. كلّ الأنظمة الرمزيّة تبعثرت.. ما الذي يحدث لنا؟ سحر أم وعد جديد؟ وفي خضمّ هذا الضباب المفهومي والسحر الفاتن للعالم الرقمي الذي منحنا مساحات جديدة للحياة والتعبير والحبّ والحلم وتقاسم الألم والخبر والمعلومة تولد أسئلة جديدة: هل انتهى العالم الواقعي؟ وما الفاصل الجديد بين الواقع والخيال؟ هل العصر الرقمي الذي دخلته الإنسانية بلا رجعة معتقد جديد أم هو كارثة تجعل الآلة تسطو على صناعة الذكاء وتعوّض ذاكرة البشر بذاكرات رقمية رهينة الأمان السيبراني؟

المخيلة والعالم
يقول شارل بودلير: «ما دامت المخيلة قد صنعت العالم فإنّها تحكمه». ولكن على أيّ نحو ستحكم المخيّلة العالم اليوم؟ قديماً كانت المخيّلة تحكم العالم أحياناً، أمّا اليوم، فالمخيّلة خلقت عوالم جديدة لم يكن في وسع أيّ فيلسوف أن يتوقّعها! لقد اخترعت المخيّلة في عصرنا عوالم افتراضية لا تشبه أيّ صورة تقليدية نحملها عن العالم الذي تخيّلناه دوماً واحداً، وقد تمّ تصميمه كأجمل العوالم الممكنة. أيّ نمط كينونة يمكن أن نقارب وفقه العوالم الرقمية أو الافتراضية؟
يكتب أستاذ الفلسفة الفرنسي ستيفان فيال في كتابه «الكينونة والشاشة» ما يلي: «الإنترنت هي في نظر بعضهم معتقد جديد. لكن، رجاء ألا نُشيّد لأنفسنا أوثاناً جديدة..»! والسؤال حينئذ هو التالي: انطلاقاً من أي نمط من السلوك النظري يمكن مقاربة الثورة الرقمية؟ ضدّ المواقف الانفعالية القائمة على ضرب من «كراهية التقنية» الشبيه بالشعارات اللاهوتية والبكائيات على موت الإنسان وخطورة التكنولوجيا على مصيره! 

كينونة معقّدة
علينا اتخاذ موقف نقدي استشرافي معاً. فالإنترنت التي تسم العصر الرقمي ليست معتقداً جديداً بالمعنى التبشيري، وليست أيضاً كارثة تهدد إنسانية الإنسان كما قد يحلو لبعض المتشائمين القول.. فهي ليست معتقداً جديداً لأنّها ليست فاعلاً مباشراً، بل هي مجرّد وسيط خوارزمي، أو هي مجرّد تجميع على درجة عليا من التعقيد والتشابك.. عمليات حسابية ومسارات وهندسات لمعطيات وفرضيات علمية يجري اختبارها وتسجيلها وحفظها عبر برامج للأمن الرقمي.. نحن إزاء كينونة معقّدة قائمة على خرائط وهندسات جديدة للزمان والمكان والمعارف والمشاعر أيضاً.
إنّ التفكير في العوالم الرقمية يتنزّل تحديداً ضمن مجال «فلسفة التقنيات» وهي فلسفة تقوم على اجتراح سلوك نظري يحرّرنا من ثنائية الخوف من الرقمي أو توثينه! فالتقنية ليست مسخاً كبيراً سيبتلعنا ويسلبنا إنسانيّتنا بإخضاعنا إلى منطق الآلة كما يذهب إلى ذلك الموقف المحافظ من التكنولوجيا، بل يتعلّق الأمر بالتفكير في الطابع الشعري للكينونة، باعتبار القاسم المشترك بين التقنية و«البويزيس» أو الإنشاء والصناعة، وذلك أنّ الوجود الإنساني نفسه هو نتاج صناعة.

ماهية التقنية
وهنا علينا أن نشير إلى أنّ الأمر يتعلّق تحديداً بمعركة فلسفية حول ماهية التقنية أقامها الفيلسوف الألماني سلوتردايك ضدّ التصور الهيدغري للتقنية. لقد آن الأوان للتفكير بالتقنية خارج هرمينوطيقا الكينونة في ضرب من «الكلبية» الخاصة بتحويل الكينونة نفسها إلى تقنية! لم يعد بوسعنا أن نفكر وفق التناقض التقليدي بين الإنسان كماهية والتقنية كأشياء. وربّما علينا تجديد معجمنا اللغوي ونحن نتحدّث اليوم عن التقنية. نحن مطالبون بتحرير الخطاب أيضاً من هذا الوهم الماهويّ الذي ورثناه من التصورات التقليدية لأنفسنا كما لو كان الإنسان ماهية ثابتة، وأنّ كلّ الأشياء التي تؤثث عالمه هي مجرّد أشياء لا ترتقي إلى طبيعته الجوهرية.

هويات هشّة
لقد سقطت الهالة عن البشر وانكشفت هوياتهم الهشّة والمتحوّلة في ظلّ تحوّلات تكنولوجية وأنطولوجية عميقة لعلاقة الإنسان بالعالم. هكذا يصبح من الضروري وفق هذا المنظور تغيير تأويلنا لمفهوم التقنية نفسها وتحريرها من ثنائية الذات والموضوع. الكينونة نفسها هي هذا العالم التكنولوجي المعقّد بآلاته وأشيائه ومساراته وأنظمته الرمزية فالتقنية إذن «لا توجد في الأشياء فحسب، بل في الذوات أيضاً».. لقد أصبحت التكنولوجيا جزءاً جوهرياً من ماهيتنا كبشر.. لا أحد منّا سيبقى إنساناً محضاً، كلّنا صرنا هويّات هجينة بين الإنسان والآلة!
 تكشف لنا الثورة الرقمية أنّ الكينونة والتقنية أمر واحد.. لقد اخترعت الثورة الرقمية للإنسانية عالماً جديداً هو عالم تصممه الآلات الرقمية.. والسؤال الخطير حينئذ هو التالي: أيّ مستقبل تعدّه لنا هذه الآلات؟ هل سيقع الاستغناء عن العقل البشري وتفويض مهارة الذكاء إلى الآلات الرقمية؟ أيّ وعد بالسعادة تحمله لنا العوالم الافتراضية؟

عالم مغاير
لا يتعلق الأمر باختراع آلات جديدة، بل بولادة عالم مغاير تماماً للعالم الواقعي التقليدي للبشر. إنّ الأمر يتعلّق بولادة عالم المستقبل، أي العالم الافتراضي. ولكن ما معنى العالم الافتراضي، وأيّ نوع من الكائنات تسكنه؟ وهل فقدنا الواقع بولادة الافتراضي؟ ليست الثورة الرقمية مجرّد تحوّل تكنولوجي حصل في حقل التواصل بين البشر، وإنّما هي حدث تاريخي بدّل وجه العصر ووقّع زمانية جديدة لكلّ أشكال التفكير بالمستقبل ولشكل الذكاء والذاكرة والزمان والمكان وهويّاتنا كأشخاص أيضاً. لا أحد منّا يعيش وحيداً في هذا العالم ولكنّ العوالم الافتراضية اخترعت أشكالاً أخرى من العزلة.. عزلة الشخص عن بيئته الواقعية.. وهجرة الجميع نحو الافتراضي لأنّ الواقع صار لا يُحتمل بحروبه وأوبئته واحتباساته الأيكولوجية الخانقة.. لقد أصبحنا اليوم نودع ذاكراتنا ومعطياتنا جميعها إلى الحواسيب كما لو أنّنا لم نعد مطالبين بأن نكون أذكياء.. فالذكاء صناعة تتكفّل بها البرامج الرقمية بما هي جزء من كينونتنا الجديدة.. ليس العصر الرقمي كارثة ولكنّه ليس معتقداً جديداً.. وربّما آن الأوان لأن نتخلّص من هذه الثنائيات العقيمة، وأن نخترع سلوكاً نظرياً جديداً في التفكير نفسه. 

أشكال مغايرة
ثمّة استراتيجيات وسياسات للحقيقة تنظر إلى التاريخ بوصفه إبداعات لأشكال مغايرة من الحياة.. لقد تغيّرنا بوصفنا كائنات حيوية تتخلى عن خلايا ميّتة كلّ لحظة وتنمو بخلايا جديدة معاً.. صار العالم الرقمي جزءاً من كينونتنا التاريخية وليس مجرّد آلات خارجة عنّا وتهدّد وجودنا.. وربّما سيضحك منّا أطفال المستقبل طويلاً ولا أحد منهم سيربّي أبناءه على حشو الأدمغة بالمعلومات والتواريخ والرياضيات والمحفوظات والشعوذات.. لأنّ الذكاء صار مهنة موكولة بيد العملاق الافتراضي «غوغل» كأذكى الكائنات في العالم اليوم.. ولأنّ وجه الإنسان وجسده وأعضاءه أيضاً قد تُغيّر من نظامها وخطّتها مع تطوّر تكنولوجيات «السايبورغ» والإنسان المزيد.. فلننصت جيّداً إلى إيقاع التاريخ في عالمنا ولنهيّئ أنفسنا لخطط حيوية جديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©