إميل أمين
حين يذكر اسم البروفيسور جاك أتالي يتذكر العالم تصنيفه عبر مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، كواحد من أهم 100 مفكر حول العالم، ليس لأنه من أهم من مارسوا فعل الثقافة كاتباً وباحثاً وروائياً فحسب، بل لأنه أيضاً شغل مناصب عالمية جعلته ذا خبرة في استشراف المستقبل، منها ترؤسه البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، ولجنة تحرير النمو الاقتصادي الفرنسي، ثم كونه عمل طيلة عشر سنوات (1981-1991) مستشاراً للرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، وكل هذا جعله مؤلفاً محققاً ومدققاً في الكثير من القضايا المعاصرة.
في قراءاته الاستشرافية، ولاسيما كتبه، ومنها: «غداً من سيحكم العالم»، و«قصة موجزة عن المستقبل» و«تاريخ البحر»، توقف أتالي طويلاً عند أزمة التطورات المناخية، وأطلق نداءات متوالية بشأن المخاطر الشاملة التي تلقي بثقلها على البشرية غير المهيأة لمواجهة بعض التحديات الإيكولوجية، وخاصة منها تلك التي قد تجعل مستقبل البشرية في خطر.
ويذكّر أتالي في معظم كتاباته حول البيئة بأحداث تاريخية مناخية هائلة تكررت مرات عدة على مدى ملايين السنين، وتسببت في اختفاء أكثر من نصف الكائنات الحية، الأمر الذي يفتح باب التساؤلات المثيرة للقلق، وفي مقدمها: هل ستواجه أجيالنا المعاصرة تحديات عظمى مثل ما جرى في كوكب الأرض مناخياً قبل ملايين السنين؟ الحال أن أتالي يعد أحد أفضل من تناولوا شأن العصور الجليدية التي عرفتها الكرة الأرضية، وأدى بعضها إلى اختفاء نحو 70% من نباتات وحيوانات الأرض، وقد عرفت تلك الفترة، بحقبة الانقراض ما قبل الكمبري، ثم حلت حقبة أخرى أطلق عليها اسم الانقراض الأوردوفيكي.
مواجهة التحدي
وكما كانت هناك عصور جليدية، عانت الأرض أيضاً من موجات ارتفاع هائلة في درجات الحرارة، امتد بعضها لنحو ألف عام، وعرف باسم، الفوران البازلتي، الذي حدث في منطقة سيبيريا منذ ما يقرب من 248 مليون سنة، حيث ارتفعت درجات حرارة الكرة الأرضية خمس عشرة درجة، ما ترتب عليه انبعاث كثيف لغاز الميثان من ألواح وصفيحات تحت الماء، الأمر الذي أدى إلى زيادة إضافية في درجات الحرارة وصلت إلى خمس عشرة درجة أخرى، اختفت معها نسبة تصل إلى ما بين 90 و95 في المائة من كل الكائنات البحرية.
ويدق جاك أتالي جرس الإنذار من احتمال تكرار الكوارث المناخية بفعل الإنسان، وأحياناً أخرى حتى بغير تدخل منه، والتساؤل المقلق لديه: هل يمكن للبشرية مواجهة ما يجري على سطح الكوكب الأزرق، وقبل أن تندثر كافة الثدييات؟ هنا يفتح المفكر الفرنسي الأذهان على حقائق مرتبطة بحدوث الانقراض الكثيف للفصائل والأنواع الحية، وعنده أن تلك المرحلة حدثت بالفعل في تاريخ البشر بسبب هدم وتدمير الأنشطة الإنسانية للأنظمة البيئية، وانتشار الميكروبات والفيروسات، والزج العفوي أو غير المحسوب بفصائل وأنواع إلى بيئة جديدة، وكذلك الاحترار المناخي.
مخاطر الانقراض
تبدو الإحصائيات البيئية التي يقدمها جاك أتالي في كتاباته مثيرة للقلق، وتظهر مهارته المعرفية والبحثية في الغوص مع الزمن، بعيداً وقريباً على حد سواء، فكما أرخ لملايين من السنين، وما جرى في الحقب الجيولوجية الغابرة، يقترب أيضاً من 500 عام مضت، حيث يرصد اختفاء عدد من فصائل الثدييات المحصية، تكاد تصل إلى خمسة آلاف نوع وفصيلة، في مقابل ما يقل عن انقراضين كانا يحدثان من قبل كلَّ مليون عام.. والسؤال: ماذا يعني ذلك؟
يعني أنه بالإيقاع الحالي يتوقع أن يختفي أكثر من ثلاثة أرباع فصائل الثدييات خلال 350 عاماً، وأن ينقرض ثلاثة أرباع الضفدعيات خلال 250 عاماً.
ثم، ماذا عن المستقبل القريب، وماذا تحمله لنا البيئة من دواعي قلق؟
يستشرف أتالي السنوات القليلة القادمة، ويلاحظ أنه بحلول عام 2030، أي خلال سبع سنوات، ستزيد انبعاثات الاحتباس الحراري بنسبة 37% عما هي عليه الآن، ويحذر من أنه إن لم ينخفض مستوى تلك الانبعاثات إلى طنين ونصف الطن لكل نسمة (تبلغ اليوم تسعة أطنان في فرنسا وثلاثة وعشرين طناً في الولايات المتحدة، على سبيل المثال لا الحصر)، فإن متوسط حرارة كوكب الأرض سيزيد من 1.7 إلى 2.4 درجة مئوية، وتعقب ذلك الارتفاع، عواصف وجفاف وفيضانات كارثية.
تطور خطير
وأبعد من هذا يحذر أتالي مؤكداً أنه من دون انتظار لهذا التطور الخطير، فإن التغيرات الطفيفة، في نسب ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، تكفي لبدء انقراض كثير من الأنواع والفصائل تقريباً.
يكاد قارئ فكر أتالي يتحير من عمق معرفته بعوالم البحار، وصدق توقعاته، ففي عام 2011 كتب منذراً ومحذراً من أنه بدءاً من منتصف عام 2020، ستكون البيئة البحرية أكثر تدميراً لذاتها من جراء تجاهل الإنسان مقتضيات حال الطبيعة من جهة، والتعدي عليها من جهة ثانية. فعلى سبيل المثال، حذر من زيادة حموضة وحرارة المحيطات، (وكلتاهما مرتبطتان بانبعاثات ثاني أكسيد الكربون)، وأثر ذلك على المرجان البحري. وهذا المرجان يؤوي نحو ثلث الكائنات البحرية ويحمي السواحل من الموجات العالية ويمنع تكاثر الطحالب المتسببة في تسميم الأسماك.
حفظ المرجان البحري
هل تحققت توقعات أتالي بالفعل؟
غالب الظن أن نسبة كبيرة منها تحققت أو هي في سبيلها إلى ذلك، إذ إن عملية الهدم قد بدأت بالفعل فنحو 40% من الشعب المرجانية خاصة في المحيط الهندي والبحر الكاريبي أصابها إلى حد ما التلف، ونسبة تصل إلى 10% تلفت تماماً في الحاجز المرجاني الكبير في أستراليا على سبيل المثال، ويمكن خلال عشر سنوات أن يصاب هذا الحاجز بالتلف بنسبة كبيرة وينتهي أمره تماماً بعد عشرين سنة.
وبنظرة مستقبلية لمنتصف هذا القرن، أي بحدود عام 2050، فإن الشعب المرجانية في العالم مهددة كلها بالانقراض، مما سيترتب عليه انقراض مظاهر كثيرة من الحياة في المحيطات، وعلى المدى البعيد عواقب كارثية على الكوكب والإنسان. ويطرح جاك أتالي على قرائه تساؤلاً جيداً، وهو أكثر أهمية من الجواب الناقص: كيف يمكن للقوى الدولية الحالية أن تحول دون خراب كوكب الأرض إيكولوجياً، أو على الأقل ما الذي يمكنها عمله لكبح تلك التطورات الضارة والمقلقة؟ لم ينتبه سوى قلة لما انتبه له هذا المفكر الفرنسي من خطر مواكب لما يهدد الأرض بيئياً، فعنده أنه مثلما رأينا من قبل ظهور إيديولوجيات شمولية في عشرينيات القرن الماضي، يمكن أن نرى أيضاً بزوغ إيديولوجيات أخرى متشددة في موضوعات إيكولوجية. وكرد فعل للمخاطر المناخية العالمية، قد نرى بشكل خاص ظهور إيديولوجية بيئية كوكبية تدعو لتخفيض الإنتاج، بهدف تقليل استهلاك الطاقة وتقليص مخاطر التلوث، وفرض قيود في كل المجالات باسم التقشف والبساطة والأجل الطويل.
طريق التغيير
ولكن، هل تعني هذه القراءة عند جاك أتالي أنه ما من طريق لتغيير حال العالم، وأن المشهد برمته قدر مقدور في زمن منظور؟
بالقطع لا، إذ إنه يطالب بالتعجيل في الإقدام على الحلم بعالم مختلف ومستدام، ويؤكد أنه على الرغم من كل ما يجري من مخاوف على السطح، فإن العالم يتسم بمميزات هائلة تعده للمستقبل، وإنه إذا عرف كيف ينظم نفسه فسينجح في تحقيق نمو بيئي واجتماعي مستدام، وخلاصة الرؤية لديه تتمثل في القول: إن لدى البشرية لإنجاز ذلك قدرات وتقنيات وموارد مالية ومبدعين، ولا يبقى أمامها سوى أن تنظم نفسها.