إبراهيم الملا
تكشف الأعمال الفنية للمعرض السنوي الـ38 لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية، عن كمّ وفير من القيم الجمالية المختزنة في أساليب العرض، وفي الأفكار والرؤى التي تطرحها هذه الأعمال، وتعبّر من خلالها عن أسئلة وهواجس يرصدها الفنانون ويجسدّونها في وسائط متعددة الأنساق والأشكال، ولذلك رأينا في المعرض أنماطاً كثيرة تستوعب هذه الهواجس الإنسانية والوجودية المتماسّة مع «روح الزمان» ضمن الشعار الذي يُعنْون الحدث الأبرز في المشهد التشكيلي حالياً، حيث إن الزمان كسيرورة وقتية يذهب بنا إلى اتجاهين متضادين، الاتجاه الأول فيهما يتنصر للنوستالجيا والاستعادات الفلكلورية والشعبية الآيلة للنسيان، بينما ينحاز الاتجاه الثاني للمستقبل والرغبة في اكتشاف مساراته وتحولاته الغامضة ضمن تصورات الفنان، ووفق طاقته التخيلية والاستشرافية.
واحتوى المعرض الذي يقام في الفترة من 18 يناير إلى 18 مارس 2023، في متحف الشارقة للفنون، على 60 عملاً فنياً، وانطوى على حوار تفاعلي متنوع في خطاباته الضمنية ومستوياته التطبيقية، وشاركت في هذا الحوار البصري مجموعة من الأسماء المخضرمة والرائدة مثل: عبدالقادر الريّس، وعبدالرحيم سالم، وعبيد سرور، ومحمد القصاب، ومنى الخاجة، ويوسف الدويك، وغيرهم، إضافة إلى مجموعة من الأسماء الجديدة والمواهب الواعدة في فضاء الفن التشكيلي بالمكان، ووسط إطار جامع بين النتاجات المحلية والعربية والدولية، ضمّ في جنباته أعمالاً تتوزع بين التصوير الزيتي والمائي، والنحت، والخزف، والأعمال الفراغية، والتوثيق البصري، وأعمال الفيديو آرت.
ونرى في أعمال الفنان الإماراتي الرائد عبيد سرور -أحد الشخصيات المكرمة بالمعرض- قوة الثيمة الشعبية المحلية والتكوينات الحروفية على في مساحة اللوحات المنفذة بألوان الإكليريك على الكانفاس، حيث تحتل هذه الثيمة والتكوينات البؤرة المركزية للعمل الفني، بينما تتوزع الألوان الفاقعة على جوانب وهوامش اللوحة، وكأن المقصود هنا هو الانتباه لخطاب العمل لا لشكله التزييني، فأصل الفكرة هو المنبع، بينما يذهب التحشيد اللوني باتجاهات وتفرّعات تعزّز هذا الأصل ولا تؤثر على حضوره وجاذبيته واستقطابه لعين المشاهد ولحواسّه انتباهاته.
ظلال وأضواء
يقدم الفنان الكبير عبدالقادر الريّس صيغاً بالغة الرهافة عند تعامله مع التدرجات اللونية ومع القيمة الجمالية القصوى التي تمنحها الظلال والأضواء للبعد البصري في لوحاته، ولما تتضمنه هذه اللوحات من مواضيع يمتزج فيها التجريد مع التشخيص، وتتداخل فيها صورة الماضي مع قسوة الزمن تجاه هذه الصورة، بحيث تصبح المكونات البيئية التي يرصدها الريّس في أعماله مشمولة بتجليات الذاكرة الجمعية والهوية المحلية المرتبطة بقوة مع هذه المواضيع، والتي لها صلة وثيقة أيضاً بالجانب الروحاني والتأمّليّ، وبانعكاسات الحنين في ملمس الطين مثلاً، أو في منظر الجبال، وهي تحيل حجارتها إلى نمط افتراضي ينتقل بها من القسوة إلى النعومة، ومن الثبات إلى الاهتزاز والرقص والانتشاء، وصولاً إلى أبواب ونوافذ البيوت القديمة، التي تتحول في لوحات الريّس إلى كيانات نابضة وحيّة ومشرقة، تزيح العتمة عن وعينا المُستلب والمُرتهَن لقبضة الحاضر بضجيجه وانشغالاته وسطوته.
وفي مسار آخر منشغل بمناخ تجريبي بحت، تُقدّم الأعمال الجديدة للفنان الرائد عبدالرحيم سالم أساليب وتقنيات لونية تتلألأ فيها الكتل البيضاء وسط محيط لوني داكن، وكأن هذه الكتل المشعّة تسعى للخلاص من الضغط والمستنزف لطاقة الفئات المسحوقة والمنسية، مواصلاً بذلك سعيه للإضاءة على قضايا المهمشين القابعين تحت ثقل هائل من الأحكام المغلوطة والمشوِهة لحرية واستقلالية وإنسانيتهم، وفي مقدمتهم «الأنثى» بحضورها الواقعي والأسطوري، والتي ينظر لها سالم في أعماله بإجلال وتوقير بالغين، ويعتبرها كياناً جمالياً بامتياز، مستنداً إلى شخصية «مهيرة» التي رافقت تجربته الفنية على مدار سنوات طويلة، ضمن مسار تصاعدي انتقل خلاله الفنان من مرحلة «التعيين» إلى مرحلة «الترميز»، منشغلاً بها كأمثولة نسوية يمكن للعمل الفني نقلها من «التأطير» إلى «الانعتاق»، ومن كونها «موضوعاً مُسْتَعْبَداً» إلى كونها «ذاتاً متحرّرةً».
تكريم واحتفاء
وفي تصريح لـ«الاتحاد الثقافي» بمناسبة تكريمه في المعرض، أوضح الفنان يوسف الدويك، الذي قدّم أعمالاً بصرية لافتة منذ حضوره للدولة قبل 35 عاماً، أن هذا التكريم ينبثق من الوعي الثقافي المتراكم بدولة الإمارات، والذي يقيّم تجارب الفنانين المحليين والمقيمين بنظرة فاحصة ودقيقة، تضيء على ما قدموه من إسهامات فنية وأطروحات إنسانية تلامس قضايا اجتماعية وسياسية مختلفة، بهدف استذكارها وعدم إهمالها وسط سيرورة الزمان التي يمكنها أن تطمس عن الأجيال الجديدة ما تمثله هذه القضايا من تحديات راهنة ومستقبلية. وأضاف الدويك أنه ممتنّ جداً لدعم ورعاية صاحب السمو حاكم الشارقة للمبدعين البارزين في المكان، وممتّن لمبادراته الكريمة في الاحتفاء بتجاربهم النوعية ومسيرتهم الفنية.
وبدورها، قالت الفنانة الرائدة والقيّمة على المعرض منى الخاجة، إن هذا الحدث الفني يعدّ مظلة فنية وارفة تجتمع تحتها الأسماء المخضرمة والأخرى الشابة لخلق نوع من التواصل المعرفي والبصري بين التجارب المختلفة والأساليب المتمايزة التي تخدم في النهاية العمل الثقافي بالمكان، وتنشر الذائقة الجمالية بين الجمهور. وحول طبيعة مشاركتها في المعرض، أوضحت الخاجة أنها قدمت أعمالاً مستوحاة من التراث المحلي، وتمثّل قيماً إنسانية تنتصر للجمال والحق والخير، مضيفة أنها استخدمت ألوان الإكليريك على «الكانفاس» في تنفيذ لوحاتها، مُجسّدة فيها الأشكال التعبيرية والرمزية للدمى المسرحية المتداخلة مع المحيط اللوني، لبثّ رسائل تنتصر للأمل والاستقلالية والخلاص ضد ممارسات سلبية مثل التقييد والتبعية والانكفاء.