د. عزالدين عناية
أطلّت السياحة الثقافية خلال العقود الأخيرة كخيار يتخطّى الاكتفاء بالمشاهَدة والمتع المادية، ويتطلّع إلى الفهم والتأمل. وبحسب تقديرات «المنظّمة العالمية للسياحة» ثمة ما يقارب ثلث السيّاح تحفّزهم دوافع ثقافية، ولكن غالباً ما يجدون وعورة في الوصول إلى أغراضهم، أو يصطدمون بعوائد تجارية تحول دون ما ينوون بلوغه. وقد برز هذا التفرّع السياحي الثقافي، الحديث نسبياً، كمسار موازٍ لسياحة تُعوّل على حشد الوفود والأفواج وإنزالها في قرى سياحية. وفي تعريف السياحة الثقافية، التي تسعى لأن تكون موازية وليست بديلة، ثمة من يحدّد خاصياتها بحسب المادة المستهلَكة، بوصفها تقوم أساساً على زيارة المدن التاريخية، وارتياد المتاحف، وعيش الأنماط الحضارية المغايرة، واقتفاء أثر الكتّاب والشعراء والفنانين ممن رحلوا، فضلاً عن زيارة المعالم والمواقع الأثرية وما شابهها. ومن جانب آخر، ثمة من يعرّف السياحة الثقافية من خلال الحوافز والدوافع التي تحرّك السائح حين يخوض التجربة، وهو يتطلّع إلى توسيع آفاقه، والبحث عن معارف جديدة، والانغماس في تراثات وعوائد مغايرة.
لكن اللافت أنّ السياحة الثقافية هي مفهوم مركَّب، يتجاوز الدلالة المعهودة للرحلة، وهي تجربة تقوم على منظور خُلقي ورؤية معرفية. بوصف ذلك الصنف من النزهة يقف على أرضية قِيَمية تتمثّل في المسؤولية والمراعاة والاعتدال واحترام الاختلاف. تحفّز المرتاد مطالب معرفية تتطلّع إلى خوض المغايَرة الأنثروبولوجية في مدلولاتها العقدية والمعيشية والثقافية. وعلى هذا الأساس تبدو السياحة الثقافية سياقاً، تلتقي فيه ذات السائح مع ثروات رمزية ومادية، وتحتكّ فيه مع تجارب معيشية لمجتمعات نائية طلباً للمثاقَفة. وفي مفهوم التوجه الجديد للتسوّح، نجد ربطاً بين السياحة الثقافية والأغراض المعرفية لدى الزائر. فلا يهدف السائح إلى الحصول على منافع مادية، بل إلى إحراز مغانم معرفية، أي بما يثري ثقافة الزائر ويدعم رصيده الإنساني والقيمي. لِما يطبع العملية من احترام للعوائد المحلية والتقاليد السائدة، ومن سعي للحفاظ على البيئة المحلية.
فمع ترقّي المستوى التعليمي للسائح خلال العقود الأخيرة، وفي بلدان عدّة، أضحى مطلب السياحة الثقافية حاضراً في سوق تعجّ بالعروض والتنافس، ومطروحاً في أوساط المتحكمين بتوجيه موجات السيّاح وتدفقات الزوار.
سياحة عمودية
لقد بات دمج العنصر اللامادي ضمن البضاعة السياحية أحدَ الأهداف الرئيسة للعملية السياحية، وهو ما بات يشكّل صنفاً على حدة في السياحة عامة. ولكن تطوير السياحة الثقافية والنهوض بها، يقتضي من جانب آخر حفاظاً على التراث المحلي وتثميناً له، بما يفرز تكاملاً علائقياً بين الفاعلين في الأوساط التراثية والحضارية وبين الزائرين الوافدين. وبوصف هذا الانزياح في عمقه، هو ردّ فعل على عمليات تحويل السائح إلى مجرّد رقم تتلهّف عليه وكالات الأسفار، وملّاك سلاسل الفنادق، وأرباب الدعاية بوصفه بضاعة لا غير. حصل هذا الانزياح بعد أن أضحت السياحة تشكو من تلاعب التسويق والتوجيه المفرطيْن، وتفتقر إلى مدلولات الطواف والرحيل والتنزّه في معانيها البريئة والهادفة. وإن لم يصل بعد، هذا النوع من السياحة الجديدة، ليكون بديلاً أو منافساً مقتدراً. فإنّ مرتاد الآفاق الجديدة، مع السياحة الثقافية، لم يعد مجرد طوّاف ساذج، ينجذب للإعلانات المغرية، والدعاية الفجة، وخاضعاً لابتزاز الوكالات المتحكمة، بل أمسى سائحاً مدركاً للمسار الذي يخوضه والهدف الذي يصبو إليه.
فعلى مستوى التغيير الهيكلي، الحاصل مع السياحة الثقافية، ثمة تحولٌ ملحوظ من سياحة أفقية تقنع بالمشاهدة والمتع العابرة، إلى سياحة عمودية تستهدف الغوص في جوهر الثقافات الأخرى ضمن حوار الذاكرات. بوصف الفعل السياحي الثقافي نشاطاً تفاعلياً بين البشر، وحوار واع بين الثقافات. وعلى هذا الأساس، فالسياحة الثقافية هي تواصلٌ على صلة وطيدة بثقافة منطقة محدّدة وبلد معيّن، يهدف من يخوضها إلى الدخول في حوار مع المخزون الحضاري للجهة والرصيد القيمي للجماعة الأهلية، مثل التاريخ والفن والعمران والطبخ ونمط العيش وغيرها. حيث تهدف التجربة السياحية في هذا السياق إلى خوض رحلة تعلّم من الآخر، وتعرّف على نمط عيشه. وتتميز السياحة ضمن هذا التمشي بكونها تأتي جراء حوافز عميقة في الفرد السائح؛ ولذلك هي سياحة واعية وهادفة، وهي أكثر من مجرد تحقيق متعة عابرة أو ترويح عن النفس، وإنما هي، وبخلاف ذلك، إشباع للروح والعقل.
وإن يكن الترحال، والسفر، والضرب في الأرض، من التقاليد القديمة التي مارسها الرحالة والمتصوفة والسائحون بغرض ارتياد الآفاق، فإنّ تعريفاً محدداً بشأن السياحة الثقافية لم يتبلور بعد. وإن كانت «المنظمة العالمية للسياحة» ذهبت إلى أنّ هذا الصنف الناشئ هو تجربة مستحدثة تهدف إلى زيارة المعالم الأثرية، والمشاركة في المهرجانات، وارتياد المعارض، وما شابه ذلك من الأنشطة، فإننا نرتئي أن الظاهرة في أبعادها المتنوّعة ليست جديدة بالمرّة. فعلى نطاق غربي كانت الرحلة الثقافية، منذ مطلع العصر الحديث، تستهدف إكساب أبناء العوائل الميسورة معارف جديدة، ولاسيما في أوساط الطبقات الأرستقراطية، بغرض تأهيلهم للقيادة في بلدانهم ودعمهم بخبرات مغايرة.
ترسيخ قيم التسامح
وضمن التحولات الراهنة لعالمنا، تدعّم مفهوم السياحة الثقافية واكتسب رصيداً معتبراً منذ أن شرعت منظمة «اليونسكو» في تثمين التراث المادي واللامادي للشعوب، والاحتفاء بالخاصيات المميزة للمجتمعات، في المأكل والمشرب والفنون والصنائع، باعتبارها جزءاً من التراث العالمي وثروة مقدَّرة للبشرية جمعاء. فبدأَ العمل على دعم هذا النوع من السياحة في سلسلة من المجتمعات، بوصف العملية هي مسعى لترسيخ قيم التسامح والتعارف بين البشر، وهي عنصر مهمّ في التقريب بين الشعوب وبثّ روح الألفة بينها. لِما يطبعها من طابع إنساني بالأساس، ولكونها لا تتمحور حول غرض مادي، وإنما يحركها حافز معرفي للآخر، بعيداً عن المنافع المادية التي تميز السياحة المحكومة بطابع تجاري.
وهكذا تحوّلت السياحة الثقافية في السنوات الأخيرة إلى ما يشبه المدرسة التعليمية المفتوحة، تهدف إلى تحفيز الاطلاع على الثقافات المغايرة، وبما يحقق المتعة والبهجة لدى السائح، دون تغليب الطابع التجاري الذي بات يطغى على العملية. وبفعل ما يميز هذا المسار، فهو يستهدف إغناء السائح وليس ابتزازه، وتطوير ما لديه لا سلْبه، فالسائح وفق هذه المقاربة هو قيمة إنسانية وليس بضاعة تجارية. وأن عملية خوض السائح المسار الثقافي هو فعلُ تطورٍ، على مستوى روحي ومعرفي وحضاري، وليس مجرد عملية استهلاك قائمة على المقايضة والابتياع والدفع. وبالتالي ثمة فلسفة أخلاقية مغايرة تقبع خلف التوجه السياحي الجديد، لا نجدها في السياحة التقليدية القائمة على العنصر الربحي المحض.
فبحسب إحصائيات «المنظمة العالمية للسياحة» تحتلّ فرنسا، وبعدها الولايات المتحدة، ثم إسبانيا، والصين، ثم إيطاليا، المراتب الأولى في العالم للسياحة التقليدية. صحيح أن تلك البلدان تحوي نصيباً معتبراً من التراث الفني والثروات الثقافية العالمية، وهو ما لا يعني أن بقية بلدان العالم خاوية من هذه الثروات، ولكن تلك البلدان المتقدّمة عرفت كيف تسوّق مخزونها وتروّجه وتعتني به على أساس علمي ومعرفي، فضلاً عن تطوير المعارف حوله مما أهّلها إلى تلك المراتب. غير أن السياحة الثقافية الناشئة تلوح واعدة ومغرية أيضاً، وهي سياحة رأسمالها متركز في التراث المحلي، والرصيد القيمي، وفي بساطة العيش والمصالحة مع الطبيعة والبيئة الحاضنة، وهي عناصر الثروة الرمزية المميزة الصانعة للفارق اليوم.