إميل أمين
صدر مؤخراً كتاب مهم ومثير يتناول واحدة من أهم، بل ربما أخطر الظواهر التي عرفها عالمنا المعاصر في العقود الثلاثة الأخيرة، هي ظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف أنها باتت تشكل اتجاهات الرأي العام في بعض إن لم يكن كل دول العالم، وإلى الحد الذي قيل معه إنها أضحت قادرة على أن تصنع صيفاً أو شتاء، وأن تطلق سيلاً من الأكاذيب والأخبار المزورة، أو تذيع حقائق قد تغير من وجه العالم!
والكتاب من تأليف، بي دابليو سينجر، المحلل الاستراتيجي في مؤسسة نيوأميركا، وإيمرسون تي بروكينج، الكاتب المقيم في واشنطن والخبير في العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والصراعات، وقد عمل مستشاراً في حرب المعلومات لمجلس الأمن القومي وهيئة الأركان المشتركة ومجتمع المخابرات الأميركية. ولكن، ما قصة هذا العمل، وكيف ظهر للوجود في نحو ستمائة صفحة من القطع الكبير، وعبر ما يشبه عشرة فصول مركزية لقضايا ملتهبة آنية؟
وعلى مدى خمس سنوات، درس مؤلفا الكتاب ما تفعله وسائل التواصل الاجتماعي في السياسة والأخبار والحروب في جميع أنحاء العالم. وتتبّع المؤلفان عشرات الصراعات في كل ركن من أركان المعمورة التي حدثت على أرض الواقع، وكذلك على شبكة الإنترنت، وسافرا إلى الخارج للقاء مسؤولين أجانب، وجلسا في مكاتب شركات التواصل الاجتماعي المعروفة، وكذا في مختبراتها السرية المظلمة، حيث تصنع معارك المستقبل.. ومن هناك كانت البداية.
في مقدمة الكتاب، يلفت المؤلفان الانتباه إلى أمر مهم للغاية، وقد يكون مفتاح لغز تلك الوسائل العصرانية، وسر تحكمها في تشكيل آراء قطاعات غير قليلة من البشرية، فقد صمم المهندسون المسؤولون عنها منصاتهم بحيث تحفز المستخدمين على نوع من الإدمان عليها. إذ يطلق الدماغ دفقات صغيرة من «الدوبامين» حين ينشر المستخدم شيئاً ويتلقى «لايك» وردود فعل من الآخرين عليه، ما قد يحصر الدماغ داخل دائرة مغلقة من المنشورات والإعجابات والمشاركات وإعادة التغريد!
وبحسب مؤلفي الكتاب يصف علماء الاجتماع الرقمي كيف تخلق وسائل التواصل الاجتماعي واقعاً جديداً لم يعد نظرياً أو افتراضياً فحسب، ففيه بوسع الخلافات الإلكترونية أن تتسبب في كوارث حقيقية مثلها مثل المشاجرات وجهاً لوجه.
على أن الاختلاف في الفضاء الإلكتروني مغاير للعالم الواقعي في أن الجميع يراقبك فيه، والكل ينتظر منك رد فعل، وما إذا كنت ستقبل التحدي أم لا. وقد تحدث هذه الظاهرة على المستويات كافة ولا تقتصر أبداً على عمليات العنف العشوائي في أميركا، حيث إن 80% من الشجارات التي تندلع في مدارس شيكاغو مثلاً يُحرض عليها عبر شبكة الإنترنت.
تطويع المعلومات
والحال أن هذه الشبكات مثل «تويتر» يسّرت تواصل البشر حول الكرة الأرضية، ولكن السؤال: هل جعلت العالم أكثر أمناً وسلاماً؟
الثابت أن معظم المتصارعين اليوم -من أقوى دول العالم إلى أضعفها- قد حولوا وسائل التواصل الاجتماعي إلى أداة في صراعاتهم الوطنية والشخصية، والتي قد تتقاطع في أغلب الأحيان. إنهم جميعاً يصارعون بهدف تطويع بيئة المعلومات العالمية لإراداتهم. ومن هنا تحولت شبكة الإنترنت التي كانت ذات يوم مكاناً لطيفاً مبهجاً للتواصل، إلى نوع من النظام العصبي للتجارة الحديثة، وأصبحت أيضاً حلبة صراع يتم فيها استخدام المعلومات نفسها ضمن وسائل الصراع!
أما بالنسبة إلى المتفائلين من مخترعي شبكة الإنترنت، والمدافعين الشرسين عنها، المتأكدين من قدرتها على تعزيز ثقافة السلام والتفاهم، فمثل هذه النظرة المتشائمة بمثابة دواء مر عليهم ابتلاعه.
إعادة صياغة
وفي هذا المقام فقد اعترف إيفان ويليامز، وهو أحد مؤسسي تويتر قائلاً: «اعتقدت أنه بمجرد أن يتمكن الجميع من التحدث بحرية وتبادل المعلومات والأفكار، سيصبح العالم تلقائياً مكاناً أفضل، ولكنني كنت مخطئاً في هذا الاعتقاد». ولكن هذا هو الوضع القائم. مثلما أعادت شبكة الإنترنت صياغة شكل الصراعات، تعمل هذه أيضاً على إعادة صياغة شكل شبكة الإنترنت وبصورة جذرية.
خمسة أركان
فما الذي فعلته شبكة الإنترنت في مقدرات الحياة المعاصرة، وعبر أذرعها المختلفة من فيسبوك، وتويتر، وإنستغرام، وما شابه من منصات جديدة قد تطفو على السطح عما قريب؟ يقدم المؤلفان مقاربة من خمسة أركان باتت تشكل عالمنا المعاصر، يمكننا أن نشير إليها باختصار:
أولاً: أصبحت الشبكة الوسيلة البارزة للاتصال والتجارة والسياسة العالميين. ومنحت سلطة قوية لمجموعات وفاعلين جدد، وكذا أوجدت نظاماً مؤسسياً جديداً يعمل باستمرار على توسيع نطاق هذه السلطة.
ثانياً: باتت الشبكة ساحة صراع، لا غنى عنها للحكومات والفاعلين غير الحكوميين. فكلهم يستخدمونها ضمن صراعات غير محددة بحدود واضحة. والنتيجة هي أن كل صراع، بحكم تداعياته وتفاعلاته، يكاد يظهر في الوقت الحاضر كما لو كان صراعاً عالمياً.
ثالثاً: غيرت طرق خوض النزاعات. فقد أحالت وسائل التواصل الاجتماعي فكرة الاحتفاظ بالمعلومات إلى ما يشبه المستحيلات. ولكن نظراً لأن الشائعات يمكن أن تطغى على الحقيقة، يمكن إعادة صياغة المعلومات، حتى المعروف منها بالفعل، وبالتالي، فإن التأثير هنا قد لا يقاس بالقوة البدنية أو المعدات ذات التقنية العالية، بل بالقدرة على جذب الانتباه. والنتيجة هي تسابق أطراف كثيرة على التلاعب النفسي والخوارزمي، في سلسلة لا نهاية لها من الأحداث وفيروسية الانتشار.
رابعاً: إن الفوز في الفضاءات الإلكترونية لا يمكن من الفوز في العالم الإلكتروني الافتراضي فحسب، بل قد يحقق ذلك في العالم الواقعي أيضاً.
فكل انتصار افتراضي قد يؤثر في الأحداث على أرض الواقع، بدءاً بنزاعات بعض المشاهير غير المنطقية وانتهاء بالانتخابات التي تغير مجرى التاريخ، ما يزيد من ضبابية التمييز بين التصرفات في العالمين المادي والرقمي.
خامساً وأخيراً: حين تتصل بشبكة الإنترنت يصبح انتباهك أشبه بقطعة أرض متنازع عليها، حيث تتصارع جهات لا تنتهي عليها، قد تعلم بوجودها أو لا تعلم. فكل ما تشاهده، أو تبدي إعجابك به، أو تشاركه على وسائل التواصل يضيف معلومة جديدة إلى ساحة التنافس على المعلومات، وقد يرجح كفة أحد الأطراف على غيره. وبالتالي، فإن انتباهك وتصرفاتك على شبكة الإنترنت هي أهداف وغايات معاً في سلسلة لا تنتهي من المنافسات، وسواء أكنت تبالي بصراعات النقرات أم لا فتأكد أن هذه الصراعات نفسها تبالي بك!
ويصعب طبعاً على المرء الإحاطة بستمائة صفحة في هذه العجالة، غير أن هناك حقيقة مؤكدة هي أن الإنترنت، كجوهر لوسائط التواصل، لم تعد مجرد شبكة، بل هي نظام بيئي يضم ما يقارب أربعة مليارات شخص، لكل منهم أفكاره وتطلعاته، وكل منهم قادر على ترك أثر صغير من نفسه في العالم الرقمي الواسع. إنهم ليسوا أهدافاً لصراع معلومات واحدة بل لآلاف وربما الملايين من تلك الصراعات. ولذا فإن من يستطيعون السيطرة على هذه التقلبات والتعامل معها بمهارة، سيحققون منافع جمة في عالم المعلومات، بل في المجالات كافة.