الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الأرجنتين.. وأدب «الكرة السحرية»

الأرجنتين.. وأدب «الكرة السحرية»
22 ديسمبر 2022 01:27

إبراهيم الملا

لا وقت للحزن في الأرجنتين، ولا يمكن لـ«بوينس آيرس» أن تحدّد بعد اليوم موعداً مع الضجر، فعندما تصبح «اليوتوبيا» في عناق حارّ مع الواقع، وعندما تمتزج الدموع بهستيريا الفرح، فإن المسألة هنا تتعدى الاحتفاء الصارخ بلحظة الانتصار، أو احتضان الظَفَر في مكان تحقيقه، ولا شك أن تتويج اللاعب الساحر والزئبقي «ليو ميسي» بكأس العالم قبل أيام، وما تبع هذا الإنجاز الذهبي من حمّى كروية عارمة، وبهجة شعبية لا يمكن وصفها أو احتواؤها، إنما هو تتويج أشبه بطقس احتفالي مهيب أعاد البريق للأرجنتين، ليس على المستوى الرياضي فقط، ولكن أيضاً على المستوى الإبداعي والثقافي والتاريخي والأنثروبولوجي الذي لازم «بلاد الفضة» كما وصفها الغزاة الإسبان منذ زمن طويل، على رغم أن هذا الوصف كان مُخادعاً، وحمل في طيّاته إغواءً زائفاً لاستقطاب الجنود والمهاجرين إلى منفى الأسرار، وإلى جغرافيا الغموض والمديات الشاسعة، إلّا أن شعب الأرجنتين تجاوز هذه الخديعة الكولونيالية المُدّبرة، وبات مبدعوه من الأدباء والرياضيين والموسيقيين والسينمائيين والفنانين يحصدون الذهب أينما حلّوا وارتحلوا، وكأن القدر ظل يكافئهم في كل مرة بسبب تضامنهم الوجداني الصلب، وانتمائهم الحقيقي لروح وطنية مشتركة، وصمودهم الخرافي أمام عنف الديكتاتوريات، وقسوة التحولات الجارفة، في وطن «التانغو» والخيول الجامحة من خيرات وثروات وموارد.

سكن الفتى الذهبي «ميسي» قلوب وأذهان ومشاعر محبيه كما لم يحدث من قبل، وصنع إلهاماً لا يبتكره سوى الاستثنائيين، بعد احتضانه أخيراً للتذكار المرصّع بالمجد في أكثر القمم الكروية صيتاً وإبهاراً، وأكثرها استقطاباً لمتابعة سكان كوكب الأرض، ولعشاق المهارة الأدائية في أقصى حالاتها تجليّاً وجنوناً، فختم «ليو» مسيرته الرياضية المبهرة كي يجذب حوله أسماء وأطيافَ وذاكرات أساطير الكرة والفن والأدب والسينما في بلده الأم الأرجنتين.

كثافة الإلهام
لقد تعانق في تلك اللحظة الفارقة ما يمكن أن نسميه: الكثافة المحتشدة للإلهام، والتي عززتها الاستعادات المرهفة للثائر الأممي: تشي غيفارا، والكتاب والأدباء: بورخيس، وإرنستو ساباتا، وخوليو كورتاثار، واللاعبين: ماريو كيمبس، ومارادونا، وريكيلمي، وباتيستوتا، وباساريلا، والشاعر ليبولدو لوجونس، والمخرج السينمائي: خوان خوسيه كامبانيلا وغيرهم، وكأننا أمام منظومة مشهدية فائضة بالرموز والدلالات والتأويلات، لأنها المنظومة التي جعلت الأرجنتين تفرض «الواقعية السحرية» على عالم كرة القدم، بعد أن كانت هذه الثيمة الجمالية المتفردة حكراً على الرواية الأرجنتينية وعلى الأدب اللاتيني بخصوصيته الميثولوجية وأبعاده الإنسانية وملامحه التاريخية المشتبكة بهويات ومرجعيات استطاعت أن تنصهر معاً بتدرّج زمني متصاعد انحاز للألفة والتآلف في بلدان لاتينية كثيرة، ولكنه مال أكثر في الأرجنتين نحو الانتقاء والتصفية بعد عقود من العذابات والممارسات العنصرية والتحييد العرقي.

أمثولة ثقافية
لقد نقل الأرجنتينيون فنيات وخطط واستراتيجيات كرة القدم إلى منعطف آخر مدهش ومتشعب ويكاد يلامس الخيال، فيما يمكن نعته بالأمثولة الثقافية المجسّدة لوعي أمة بأكملها، ولذلك صار اتصال الفن والكتابة والأنماط التعبيرية والجمالية الأخرى بعالم كرة القدم في الأرجنتين هو الاتصال الأكثر اقتراناً واشتباكاً وتناغماً مع جينات الإبداع التي اختص بها سكان «الأنديز»، الأنصار الأبديون للزعيمة الروحية: «إيفا بيرون»، فبتنا أمام شعب يتنفس كرة القدم ويعشق الرواية ويهيم في الشعر، شعب استطاع ترويض الهجرة الصاخبة إلى بيئته الفطرية الزاهية بالشواطئ والغابات والمروج المشرقة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، كي تصبح هجرة متصالحة مع ذاتها ومع المكان، ومفعمة في ذات الوقت بالانسجام والحب اللامتناهي لقيمة الوطن، باعتبارها قيمة وجودية تربط الراهن الحيوي بجذور إنسانية راسخة وعريقة وذات أصداء مجلجلة في التاريخ الحديث للأرجنتين.

الأدب الكروي
ومن أهم الأدباء الأرجنتينيين الذين امتدحوا التأثير الثقافي الإيجابي لكرة القدم في بلدهم هو الكاتب خوان ساستوريان، صاحب قصة «مهاجم الجبهة اليسرى» وأحد رواد أدب كرة القدم، الذي يشير في أحد الحوارات معه إلى «أنه في السبعينيات بدأ يُنظر بصورة أخرى، وبصورة أفضل، لعدة أنشطة ومنها الكتابة عن كرة القدم. أما الجديد في الثمانينيات فكان دخول كرة القدم كأحد عناصر الإبداع الأدبي بشكل صار معتاداً».
ومن الأعمال الأخرى المتعلقة بالأدب الكروي في الأرجنتين يأتي كتاب «انتحار في الملعب» لهوراثيو كيروغا كأحد النتاجات المهمة والمعبّرة عن مدى تغلغل الثقافة الكروية في المجتمع، سواء في المراكز الكبرى أو في المناطق الفقيرة، وصدر في السبعينيات كتاب «أدب الكرة» لروبرتو خورخي سانتورو، الذي تضمن بحثاً شاملاً عن النصوص الأدبية التي كتبت بالإسبانية ولها علاقة بكرة القدم. وظهرت في الثمانينيات أسماء أدبية جديدة تناولت كرة القدم الأرجنتينية من أبعاد إنسانية وسوسيولوجية مختلفة، ومن أهم هؤلاء الكتاب: أوسبالدو سوريانو، وروبرتو فونتاناروسا، وكانوا ينشرون أعمالهم المعنية بالتشريح الفلسفي لعوالم الكرة في المجلات الشهيرة، وفي مجموعاتهم القصصية.

مجموعات قصصية كروية
وكانت فترة التسعينيات هي الفترة الذهبية للأدب الكروي في الأرجنتين بعد أن توهجت اللعبة محلياً ودولياً بشكل لافت، وصارت تمتلك قيمة عالمية تتجاوز حدود النطاق المحلي، وصدرت خلال هذه الحقبة مجموعات قصصية كروية كاملة مثل: «حكايات السنوات السعيدة» و«حراس وموهومون وهدافون» الصادرتين في عامي 1993 و1998 من تأليف سوريانو، و«كرة قدم نقية» الصادرة عام 2000 من تأليف فونتاناروسا الذي يعد إلى جانب مواطنه إدواردو ساتشيري، أهم من كتب في هذا المجال الإبداعي الجديد والمختلف.
ووفقاً لإحصائيات منشورة في عام 2007، فإن عدد كتب الأدب الكروي التي نُشرت في الأرجنتين عام 1996 كان 21 كتاباً فقط، لكن الرقم قفز عام 2006 إلى 59 كتاباً. وتشير الوثائق التاريخية أيضاً إلى أنه مع تدفق المهاجرين الإيطاليين والإسبان، طورت الأرجنتين أسلوبها الخاص في اللعب الذي يعتمد على الأناقة والقدرة والإلهام في مدرسة كرة القدم التي ستنتج فيما بعد دييغو مارادونا وليونيل ميسي، وسرعان ما أبدى خبراء الكرة إعجابهم بالنجوم الأوائل الخارجين من معطف هذا الأسلوب اللاتيني المبهر.

توحيد الهوية
لقد أسهمت كرة القدم الأرجنتينية في توحيد الهوية، وباتت أكثر من مجرد رياضة، بعد أن تأصلت بعمق في الأحياء الشعبية والحواري الهامشية، وصار الهوس بالساحرة المستديرة جزءاً لا يتجزأ من أسلوب العيش وثقافة الحياة، وكما يقول الباحث خوان برانز بعد فوز بلاده في المباراة النهائية لكأس العالم وإقصائها لفرنسا: «هذه هي عظمة كرة القدم في الأرجنتين. هناك ذاكرة جماعية وشخصية مشتركة، تعمل في هذه اللحظات».
بينما يقول الكاتب والمحاضر الجامعي الأرجنتيني أرييل شير: «تأخذ كرة القدم حيزاً كبيراً وهي مهمة جداً في الحياة اليومية هنا، وليس هناك ما يضمن أنه يمكن أن يخفي أو يجعلك تنسى المشاكل، ولكنه مكان تبحث فيه عن أشياء لا تجدها في مكان غيره».

مسلّة الاحتفال
ومع مراجعة الوثائق التاريخية، فإن الحديث عن موقع احتفال الجماهير الأرجنتينية بعد انتهاء فعاليات نسخة 2022 من كأس العالم، يقودنا إلى المسلّة العريقة في العاصمة بوينس آيرس التي يبلغ ارتفاعها 67.5 متر ويعود تاريخها إلى نهائيات كأس العالم 1978 - وهي أول بطولة للأرجنتين، عندما كانت الدولة الواقعة في أميركا الجنوبية تحكمها دكتاتورية عسكرية وحشية، وقد أقيمت المسلة في عام 1936 في موقع كنيسة قديمة، حيث رفرف علم الأرجنتين لأول مرة في بوينس آيرس في أغسطس 1812.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©