هزاع أبوالريش ونوف الموسى (أبوظبي)
هل التنسيق بين المؤسسات الثقافية في دولة الإمارات، والبحث عن آلية مشتركة تضمن استدامة الاتصال الجماهيري مع البيئات التفاعلية في القاعات العامة للفضاءات الثقافية والفنية والمعرفية، ما يزالان ضرورة، في ظل انفتاح فضاء الإعلام الرقمي عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟! وكيف يُمكن للقائمين على المؤسسات الثقافية الاشتغال على ابتكار مسارات جديدة، فيما يتعلق بتنوع أجندة فعالياتها الثقافية والفنية، أمام نمطية التكرار والحاجة إلى «التجريب»، أي صناعة تمازج لأشكال عرض الفعالية الثقافية، وتحويلها في العمق إلى عمل إبداعي، يتطلب التفكير فيه كمنتج ثقافي.
ومن هنا يمكن أن يتم تحويل تلك الفضاءات إلى كونها مساحة تستوعب الفعل الثقافي من مختلف القطاعات والأشكال الإبداعية، وتساهم في تطوير التجارب من خلال بناء منظومة «فن التسويق الثقافي»، باعتبارها اشتغالاً رصيناً يتم تمريره للمتلقي، وهي بذلك لا تتبنى محوراً اقتصادياً بحتاً، كما قد يتصور البعض، على رغم أهمية ذلك في مفاهيم اقتصاد المعرفة والصناعات الإبداعية، ولكنها تؤكد أيضاً على الدور الأصيل للمؤسسات الثقافية في إمكانية المشاركة في تطوير آلية التنسيق فيما بينها من خلال إحداث تنوع ونقلة في مشاريع العرض، وطبيعة البيئات النقاشية، غير مكتفية بتوقيت إقامة الحدث، بل بإضفاء روح التعاون والشراكة، التي من شأنها أن تؤسس لمهرجانات ومبادرات ثقافية عامة، تُشكل مظلة استثنائية للفعل الثقافي بدولة الإمارات.
وفي المقابل لا يُمكن أيضاً إغفال التفرد والخصوصية التي قد تحتاجها المؤسسات والهيئات الثقافية، لرسم هويتها الخاصة، كلٌ في موقعه وجغرافيته وأهدافه الاستراتيجية السنوية، ما قد يدعونا للبحث عن تصورات جديدة، لرؤية مفهوم «التنسيق بين المؤسسات الثقافية»، والتساؤل بشكل تفصيلي: هل الأمر يعود برمته إلى منهجية إدارية أم أنه يستدعي أدوات إبداعية في المقام الأول؟
أكدت الشيخة الدكتورة شما بنت محمد بن خالد آل نهيان، رئيس مجلس إدارة مؤسسات الشيخ محمد بن خالد آل نهيان الثقافية والتعليمية، أن الثقافة هي المفاهيم المتراكمة في وعي المجتمع، وتنعكس على سلوكيات أفراده ونمو أفكارهم وعلاقاتهم داخل وخارج المجتمع. وأوضحت أن الثقافة والحراك الإبداعي داخل المجتمع يمثلان رافداً مهماً من روافد بناء الثقافة المجتمعية، وبالتالي فإن المبدع يعتبر العنصر الأول وركيزة الخيمة لبناء ثقافة المجتمع وتطويرها وتوجيهها، فالإبداع عملية تنتج من حركة التفاعل بين المعرفة المستندة إلى ثقافة البيئة التي نشأ فيها المبدع، وبين التيارات الإبداعية المختلفة حول العالم، والناتجة من ثقافات مختلفة ومتباينة أحياناً، ولذلك فإن الاهتمام بالإبداع والحفاظ على اتجاهات الأشرعة الخاصة به يعني الحفاظ على اتجاه سفينة ثقافة المجتمع في الطريق الصحيح.
دعم معرفي
أما العنصر الثاني من عناصر الإبداع فهو المؤسسات الثقافية المهتمة بالإنتاج الإبداعي بمختلف تنوعاتها، سواء أكانت منتجة وراعية للمبدعين كالمراكز الثقافية واتحادات الكتاب والصالونات الثقافية وغيرها من الحاضنات التي تحتوي المبدعين وتدعمهم معرفياً ومادياً، أم كانت مؤسسات تعمل على اقتصاد الثقافة كدور النشر والمكتبات، فالعنصران يمثلان كفتي ميزان الحياة الثقافية في المجتمع. وتظل توجيهات ورؤى الدولة هي رمانة الميزان التي تحافظ على التوازن في الحياة الثقافية ما بين المبدع والمثقف والمؤسسات الثقافية.
البناء التراكمي
ولفتت الشيخة الدكتورة شما بنت محمد بن خالد آل نهيان إلى أن تعزيز التعاون والشراكة بين المؤسسات الثقافية المختلفة لابد أن يصب في مصلحة الإبداع والإنتاج الثقافي والفكري بمختلف أنواعه، فالعمل الثقافي ذو بناء تراكمي وتكاملي ولذلك لابد من الدعم وعقد شراكات وتنسيقات بين مختلف المؤسسات الثقافية، وفي مؤسسات الشيخ محمد بن خالد آل نهيان الثقافية والتعليمية عقدنا العديد من الشراكات التنسيقية ومذكرات التفاهم مع مؤسسات ثقافية متعددة داخل دولة الإمارات العربية المتحدة، والهدف دائماً إثراء الحراك الثقافي في الدولة من خلال بناء تعاون وثيق يستهدف تعزيز جو الإبداع والمعرفة والبناء الفكري للشباب والمبدعين الجدد.
ولذلك فإن وجود حاضنة كبرى ترعى تلك الشراكات وتعزز التنسيق بين المؤسسات الثقافية بمختلف توجهاتها ضرورة من أجل توحيد الجهود في اتجاه الاستراتيجيات العامة للدولة، وهذا يمثل حجر الزاوية في نجاح تلك الاستراتيجيات، ولذلك أرى أن وجود وحدة تنسيقية أمر مهم لتعمل على عقد تجمعات دورية لكل المؤسسات الثقافية، والوقوف على التوجهات التي تسير في خدمة العملية الإبداعية بأنواعها كافة، وتعزيز الإنتاج الثقافي والفكري المتسق مع استراتيجيات الدولة الثقافية. كما أنها تمثل حلقة وصل بين المؤسسات المختلفة لعقد شراكات وتعاون مشترك تجاه القضايا الثقافية والفكرية التي تهم المجتمع وترفع أداء الأوساط الثقافية.
إنجازات هائلة
وقال الدكتور علي بن تميم، رئيس مركز أبوظبي للغة العربية: «حقّق القطاع الثقافي في دولة الإمارات حراكاً غنياً وإنجازات هائلة على مدار السنوات والعقود الماضية، انطلاقاً من دعم وتحفيز القيادة الحكيمة للنهضة الثقافية وترسيخ دور مؤسساتها منذ قيام الاتحاد، عبر سياسات واستراتيجيات مُحكمة وُضعت لتحقيق هذه الأهداف»، مشيراً إلى أن النجاحات التي نشهدها اليوم والمكانة الرائدة التي تبوّأتها دولة الإمارات في المجال الثقافي، مع وجود الكمّ الكبير من المبدعين والمتميّزين في جميع الحقول الإبداعية، ما كانت لتتحقّق لولا الجهود الحثيثة والتعاون الجادّ بين مختلف المؤسسات والجهات الثقافية في الدولة على المستويين المحلي والاتحادي.
رؤى ثقافية متنوّعة
وقال ابن تميم: لقد أثمر التعاون والتنسيق بين المؤسسات الثقافية نتائج واضحة على أرض الواقع، يمكن تلمّسها في هذه الأجندة الثقافية الحافلة لدولة الإمارات، التي تقدّم الكثير للدولة وللعالم أجمع في واقع الأمر. وعلى مدار العام، نشهد فعاليات ومؤتمرات ومعارض وأحداثاً أدبية وفنية وثقافية وفكرية عالمية المستوى، تستقطب المبدعين من كل مكان ومن مختلف الثقافات، وتقدّم دوماً رؤى ثقافية متنوّعة، وتمدّ جسور المعرفة والثقافة بيننا وبين المجتمعات الأخرى، مُعلية من شأن القيم الحضارية الأصيلة في الثقافة من سماحة وانفتاح وعطاء، حتى غدت دولة الإمارات نموذجاً عالمياً في تسخير الثقافة والمعرفة لنهضة المجتمع وتقديم رسالة سلام ومحبّة، تعكس مدى ارتباط أبناء مجتمع الإمارات بهويتهم وقيمهم وثقافتهم الأصيلة. وتأتي وزارة الثقافة والشباب على رأس قائمة الجهات التي أثْرت المشهد الثقافي الإماراتي، وعملت على تنسيق الجهود المشتركة بين مختلف مؤسساته. كما لعبت الهيئات الثقافية في الإمارات دوراً بارزاً في تشجيع الحراك الثقافي والفني والإبداعي وتقديم برامج ثقافية متميّزة تسلّط الضوء على الموهوبين الجدد في مختلف مجالات الإبداع.
أجندة ثقافية وطنية
وفي هذا المقام أيضاً، اقترح الباحث بلال البدور، رئيس مجلس إدارة ندوة الثقافة والعلوم بدبي، إمكانية وضع ما أسماه بـ«الأجندة الوطنية»، من خلال تأسيس «المجلس الأعلى للثقافة»، بحيث ينبثق من وزارة الثقافة والشباب، كونها مؤسسة اتحادية شرع لها الدستور أن تكون مسؤولة عن الثقافة، وبناء عليه، ترسم المؤسسات الحكومية والأهلية برامجها ومبادراتها، وفقاً للاستراتيجية الوطنية العامة.
وأضاف البدور أن هناك اجتماعات سابقة عقدت بين العديد من المؤسسات الثقافية، في محاولة لإتمام عملية التنسيق، لإتاحة أكبر فرصة ممكنة للمتلقي للتفاعل مع فضاء المؤسسات بشكل مباشر، وذلك من خلال التواجد في الفعاليات، مبيناً أن بعض المؤسسات قد تبدي رغبتها واستعدادها في البداية، ثم ما تلبث أن تتراجع، موضحاً مسألة «الحساسية» التي قد تنشأ بين إدارات المؤسسات، حول مفهوم «إلزام» مؤسسة معينة بتوقيت معين، من أجل فعالية لمؤسسة أخرى، قد تكون في الإمارة نفسها أو في إمارة أخرى. ويعتبر البدور أن الإشكالية أيضاً تكمن في أن بعض المؤسسات الثقافية، قد تُدار من غير أصحاب الاهتمام بالشأن الثقافي، أو من يطلق عليهم «موظفو الثقافة». وأشار بلال البدور إلى أن التنوع سمة أساسية في الفعل الثقافي، مشيراً إلى أن التحدي اليوم، في هذه المسألة بالأخص، مرتبط بإتاحة مجال أوسع للجيل الحالي، لأن يعبر عن أفكاره، ويشارك في التخطيط للفعل الثقافي.
التطور الاستثنائي
ومن جهته، اعتبر الباحث والأديب سلطان العميمي، رئيس اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، أن عملية التنسيق بين المؤسسات الثقافية مسألة صعبة، وسط الزخم الكبير للفعاليات الثقافية والفنية يومياً، إلى جانب نُشوء مؤسسات وهيئات ثقافية وفنية وتراثية ومتحفية جديدة، وفقاً للتطور الاستثنائي الذي يشهده الحراك الثقافي بدولة الإمارات، وموضوعياً فإن عملية قياس الفعاليات بتوقيت معين، ضمن أجندة محددة، يكاد لا يوازي الطبيعة الديناميكية اللحظية للبرامج والفعاليات الثقافية. ورغم أهمية الحضور الجماهيري، التي يتبناها، ويؤمن بأثرها في تنامي التجربة الثقافية والإبداعية، فإنه يرى أن الفضاء الإعلامي المفتوح، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أنتج أشكالاً تفاعلية افتراضية لمضامين الحوار بين الفعل الثقافي والجمهور، وأصبحت المؤسسات والهيئات ترصد درجة وصولها للمتلقي، بنسب المشاهدات والتعليقات التي تمثل مقياساً للعلاقة بين المؤسسة المعرفية وتوجهاتها، والجمهور واهتماماته.
التحدي الأكبر
وأوضح العميمي أن التحدي الأكبر في الوقت الراهن، هو أهمية وجود قيادات ثقافية في المؤسسات، قادرة على أن تحل أغلب الإشكاليات، بوعي كامل للمناهج الإدارية والخبرات المعرفية، التي من شأنها أن تصمم البرامج الثقافية والفنية، بأبعاد ابتكارية ومتنوعة، بناءً على فهم تام لما يعنيه «الفعل الثقافي» في التجربة الإنسانية، ومواكبته إعلامياً، فهناك الكثير من الفعاليات الثقافية الأقل من عادية، قد تصور في المنصات الإعلامية، على أنها كبيرة التأثير ومهمة، ما يشكل صورة نمطية معينة لدى المتلقي العادي، بأن هذا هو شكل الفعل الثقافي الذي نحتاجه، وقد تختل على أثره موازين الرؤى الفعلية للحراك الثقافي، مضيفاً أن انفتاح المؤسسات والهيئات الثقافية على اقتراحات أفراد الجمهور، وجعلهم مساهمين مباشرين في وضع البرامج الثقافية، يعد بمثابة فرصة نقاشية مهمة لإدراك معنى الفعل الثقافي، وتعزيز بناء الثقة بين المؤسسة والمتلقي.
فرصة استثنائية
يرى الكاتب والباحث إبراهيم الهاشمي، المدير التنفيذي لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، أن مسألة المنافسة بين المؤسسات الثقافية تقدم دافعاً تحفيزياً نحو استمرارية تطوير الفضاءات الثقافية، ولكننا اليوم أحوج ما نكون إلى الشراكات، والتفكير بطريقة تُلهم بيئة الإبداع الثقافي، نحو مستويات مغايرة ومتقدمة، توازي التطور التنموي في دولة الإمارات والمنطقة العربية والعالم. ويتساءل: لماذا لا نعمل كمؤسسات وهيئات ثقافية نشاطات مشتركة، تُسهم في توطيد علاقتنا الثقافية والاجتماعية مع الجمهور، إضافة إلى الشراكات الاستراتيجية التي ستقدم حضوراً عاماً ووصولاً لأكبر مجموعة ممكنة من جمهور القطاعات الثقافية والإبداعية، ومنه تتحول آلية التنسيق التي يصعب إدارتها وحلها بالشكل التقليدي، بحكم المتغيرات والزخم الثقافي والإبداعي، إلى فرصة استثنائية لتبني مشروعات ثقافية مشتركة. ولفت الهاشمي إلى أن التعاون بين المؤسسات الثقافية يقدم للمشهد الثقافي المحلي مساحة أكبر للتنوع وجودة المخرجات الإبداعية.