سعد عبد الراضي (أبوظبي)
في اليوم العالمي للغة العربية، استطلعت «الاتحاد» وجهتي نظر أكاديميتين تتعلق الأولى بالجانب التطبيقي الذي يتشكل أحد أركانه في قطاع النشر، وخاصة ما يتعلق منه بتنشئة الطفل باعتبارها اللبنة التي ينطلق منها التطوير والتحفيز لتستمر لغة الضاد في توهجها من جيل إلى آخر، أما وجهة النظر الأخرى فتتعلق بالمشهدية من حيث اعتبار اللغة كائناً يتأثر بالبيئة المحيطة وما تمر به من مستجدات.
الدكتورة ليلى فاميليار، محاضر في جامعة نيويورك أبوظبي ومستشارة أكاديمية، ولديها اهتمام خاص بمجال تعليم اللغة العربية وتصميم المناهج ولغويات الكوربوس، كما أنها مديرة مشروع Khallina، وهو موقع إلكتروني تم تطويره لتعليم وتعلم الثقافة العربية من خلال البرامج السمعية والبصرية مفتوحة المصدر. وقد سألتها «الاتحاد» في اليوم العالمي للغة العربية عن شأن مهم من شؤون حركة اللغة العربية ألا وهو الكتب الموجهة للطفل باعتبار أنها كانت عضوة في لجنة تحكيم جائزة اتصالات لكتاب الطفل فقالت: أعتبر هذه المشاركة من التجارب الثرية التي سمحت لي بأن أطّلع بعمق على ما ينتجه كثير من الأقلام ودور النشر العربية للأطفال واليافعين، ولذا أشعر بأنه يتوجّب عليّ مشاركة بعض الانطباعات والأفكار التي خرجتُ بها، لعلّ مَن يهتم بهذه القضية يجد فيها شيئاً من الفائدة.
وقالت: هناك طبعاً عوامِل مختلفة تُسهِم في نجاح أو إخفاق هذه النوعية من الكتب، وأسباب تجعل الأطفال واليافعين يُقبِلون عليها أو يُعرِضون عنها. ومن ضمن هذه العوامل ما هو فنّي، وما هو لغوي، ومنها ما يتعلّق أيضاً بالمُحتوى، وما يخصّ الأساليب الفنّية والأدبية المُستخدمة في معالجة الموضوعات المطروحة. وبحُكم خلفيتي الأكاديمية، أودّ أن أتوقّف عند بعض العوامل اللغوية والمتعلّقة بالمضمون، والتي تعلب دوراً أساسياً في جذب الصِغار والناشئين إلى الكتب المطبوعة باللغة العربية.
الخط المستخدم
وعن الخطّ المُستخدم في الطباعة، قالت: الخطوط التي يختارها الكاتب أو صاحب دار النشر لكي تصاحِب القصة ذات تأثير كبير على ذهن الطفل وقدرته على فكّ الحروف بسلاسة. فهناك خطوط سهلة القراءة، وهناك خطوط قد تشكّل عبئاً كبيراً على ذهن القارئ، سواء كان طفلا أم لا!. وتخبرنا الأبحاث بأنّ للمَحارِف دوراً مهماً في تسهيل أو عرقلة عملية القراءة، ولذا فإن دار النشر الناجحة هي التي تقتني أو تصمّم أطقماً مناسبة من المحارف العربية التي تلائم الشرائح العُمرية المختلفة. وهذا الجانب البصري من النص لا نستطيع إغفاله، فالخطّ المُستخدم يمكن بسهولة أن ينفّر الطفل من الكتاب إذا صعُب عليه فكّه، لأنه ببساطة يسبب له عبئاً ذهنياً.
تشكيل الكلمات
وعن تشكيل الكلمات والنصوص قالت: يميل العرب إلى تشكيل جميع المطبوعات الموجّهة للأطفال واليافعين، فيما يبدو توارثاً لعادة بدأت منذ عقود طويلة. وهذا التشكيل لبنية الكلمات تحديداً مفيد للطفل عندما يبدأ في تعلّم الفصحى، كونها تختلف إلى حدّ ما عن اللهجة التي يتحدّثها في المنزل، ولكنه قد لا يكون مجدياً في حالة طفل اكتسب آلاف الكلمات، ووصل إلى مرحلة القراءة السلسة. بل هناك أبحاث تخبرنا بأنّ تقديم نصوص كاملة التشكيل للقارئ المتمرّس هو بمثابة عرقلة وتشويش، إذ قد تُحدِث ضوضاء بصرية لا تخدم عملية الاستيعاب. ولأنّ الدراسات ما زالت قليلة في هذا المجال، فهناك حاجة إلى تمويل أبحاث علمية لنفهم بشكل أفضل كل ما هو متعلّق بقراءة الأطفال واليافعين للغة العربية.
المفردات المستخدمة
وعن نوعية المُفردات المُستخدمة قالت: إنّ القصص التي تدخل قلوب الأطفال تستخدم لغة بسيطة ومفردات فصيحة تشبه ما نستعمله في اللغة المحكية، وليس بالضرورة لغة تطرب آذان الفصحاء منّا. ماذا أقصد؟ إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ اللغة التي يتلقاها الطفل العربي في الشهور والسنوات الأولى من عمره هي اللهجة العامية، ويستخدمها لاحقاً في التواصل الشفهي مع الأم والأب وبقية أفراد الأسرة، فعلى المؤلفين والناشرين الانتباه إلى نوعية المفردات المُستخدمة في القصص، ومدى قُربها أو بُعدها عن الكلمات الفصيحة التي يتعلّمها الطفل في السنوات المدرسية الأولى. وبعبارة أخرى: كلّما كان القارئ أصغر في العمر، احتاج المؤلفون لأن يستخدموا مفردات أقرب إلى لهجة الطفل، أو ما هو شائع في أغلب اللهجات العربية، حتّى يتمكّن من التعرّف عليها صوتياً، ولاحقاً بصرياً. وتبدو هذه الوصفة بسيطة، وهي في الواقع أقرب إلى ما يُسمّى بالسهل المُمتنع.
الموضوعات والقضايا المطروحة
واستطردت ليلى فاميليار قائلة: لفت نظري أنّ العديد من الإصدارات الموجّهة للطفل العربي تكتسي نبرة وعظ تربوية مباشرة، قد لا تخدم الهدف الذي يُفترض أن يصبو إليه أدب الطفل والناشئة، لأن هذه النصوص تذكّر الأطفال بالمناهج المدرسية ولا تحبّبهم في القراءة. وهذا النوع من الأدب يجب أن يهدف إلى تحفيز الخيال، وإلى تنمية الفكر الناقد المُنعدم، بكل أسف، لدى بعض أطفالنا وشبابنا العربي. ويبدو لي أنّ السبيل إلى ذلك يكمن في القصص التي تحثّ الطفل على إيجاد حلول فردية ومستقلة للأسئلة التي يطرحها النص.
انتقاد في غير محله
وفي هذا الصدد، قد نسمع أحياناً أصواتاً تنتقد بعض الإصدارات الحديثة بحجة أنها تتناول موضوعات قديمة، تمّ طرحها من قبل في قصص أخرى.. وينسى هؤلاء أنّ السرّ لا يكمن في القضية نفسها، بل في طريقة تناولها، وهل ثمة ابتكار وإبداع، سواء كان ذلك في اللغة أو أسلوب العرض أو الإخراج الفنّي. فهنا يظهر ذكاء المؤلف، والرسّام أيضاً، ومعرفته باحتياجات الطفل، وحرفية الناشر لدى اختياره للنص الذي يلائم الفئة العمرية المستهدفة.
جذب القارئ اليافع
وعن طرق جذب القارئ اليافع تقول ليلى فاميليار: يستهلك أطفال ويافعو اليوم مادة مرئية تقوم على عنصريّ السرعة والمفاجأة، وأجد أنّ بإمكان رواية اليافعين خاصةً الاستفادة من هذا الواقع. فالصفحات الأولى من القصة أو الرواية عادة ما تكون مفتاحية من حيث قدرتها على جذب انتباه القارئ وجعله يستمرّ في القراءة، أو جعله ينحّي الكتاب جانباً. والمقصود ضرورة الانتباه إلى أسلوب الكتابة ومدى قدرتها على استقطاب هذه الفئة العمرية، لأنّ التحديات التي تواجه صُنّاع الكتب اليوم هي أكثر ممّا كان عليه الوضع منذ ثلاثة أو أربعة عقود.
عبير الحوسني: العربية أساس الهوية
قالت الباحثة والكاتبة عبير الحوسني: اللغة العربية هي اللغة التي قدّسها الله تعالى وميزها عن غيرها من اللغات التي كان لها حضور في الحضارات ثم تراجعت، ولا تخفى علينا المهمة الأولى التي تؤديها اللغة من تقاربٍ بين أفراد المجتمع تحت ما يعرف بعملية الاتصال اللفظي لما هو مكتوب أو منطوق.
اللغة والواقع المتطور
وأضافت: لكن اللغة العربية اليوم ومع الواقع التكنولوجي الذي يشهده العالم والمجتمع باعتباره جزءاً من منظومة هذا العالم، أصبحت هناك عوامل قد تقلل انتشارها، وبالتحديد مع سيطرة وسائل الاتصال الحديثة ووسائط التواصل الاجتماعي التي أتاحت للجميع استعمال اللغة، ولكن بصورة أضرت اللغة العربية أكثر مما نفعتها، خصوصاً مع انتشار اللغات الدخيلة. وقد يعود السبب في ذلك التأثيرات التي حصلت وأدت إلى تغيير بعض قيمنا ولغتنا، فجميعنا نعلم أن تلك الأسباب والعوامل هي نتيجة للتّضافر والترابط الذي حصل بين اللغة والتكنولوجيا والإعلام ووسائل الاتصال تحت مظلة العولمة، والتغيير الذي حصل في المشهد الثقافي والإنساني، ما أدى إلى الحد من الخصوصيات والتأثير في المرجعيات الثقافية.
اللغة والهوية
وتابعت عبير الحوسني: إن الحديث عن اللغة وأزمة الهوية لا يمكن اعتباره جدلاً فلسفيّاً أو ترفاً فكرياً، بل هو حديث مرتبط بمصير أمّة وطبيعة علاقة أبنائها بثقافتها، وبهذا تتسع دائرة اللغة وإيحاءاتها ومعانيها لتصبح الوعاء الثقافي والفكري للأفراد.
فاللغة مقوّم أساسي من مقوّمات قيام الأمم وهويتها، فكل لغة تنطوي على رؤية خاصة للعالم تشكّل في الآخر الهوية، ولذا نجد واضعي ميثاق التنوع الثقافي لدى منظمة اليونيسكو يؤكّدون أن اللغة ليست أداة للاتّصال واكتساب المعرفة فقط، وإنّما هي أيضاً مظهر مهم وأساسي للهوية الثقافية ووسيلة لتعزيزها لدى الأفراد والمجتمع.
طرح مغاير
وقالت: الحديث عن اللغة العربية يستلزم منّا طرحاً مغايراً لبعض ما طرح من قبل، فالمشهد الثقافي تغيّر وأصبح هناك أحياناً اضطراب مرجعي ومفاهيمي أدى إلى اضطراب سلم الأولويات لدى بعض الأفراد، وحدوث خلل في منظومة قيم الانتماء الثقافي والحضاري، ولذا أصبحنا كعرب نواجه تحدّياً كبيراً في صياغة مناعة جيل الشباب واليافعين تحت مظلة العولمة التي تهدف إلى قولبة المعجم والمفاهيم والقيم وتنميط البشر وفق معايير محددة إذ لا مكان للخصوصيات فيها.