الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

في مديح النقد

في مديح النقد
8 ديسمبر 2022 01:13

 د. عز الدين عناية

تراهن المؤسسة التعليمية الحديثة على تكوين ملَكة النقد وتطويرها لدى الدارس والمتعلّم، إدراكاً لما يعِد به الفكر النقدي ذو الصبغة التحليلية والتركيبية، من خروج عن الأطر الجامدة والمنغلقة، التي لا تنطوي على إضافة وتكرّس السائد، إلى تحرّر في النظر والعمل. وبصفة الفكر النقدي ملَكة قابلة للتطوير، وليس معطى مورَّثاً، بل هو سياق معرفي، فإنّ المناهج التربوية والطرق التعليمية تحثّ بشكل ملحّ، على هذا المسار تقديراً لجدواه وإيماناً بوعوده في المستقبل. 
وذلك بهدف بناء الفرد الناظر في المسارات والمدرك للمآلات، لا المرء السائر من دون هدى. بمعنى أن يتشكل لدى الفرد قرار، حول ما الذي يرى؟ وماذا يفعل؟ وماذا يرتقب؟ إذ الملاحظ أنه في تكوين الفكر النقدي تتضافر جملة من العوامل لبلوغ ذلك المقام، فهو نشاط متعدد المسارات تتعاضد فيه تخصصات ومسالك تربوية. وهو من منظور سياقي، انبثاق للوعي داخل صيرورة تاريخية، وليس معطى ثابتاً، وإنما عملية تطورية داخل التاريخ.

التحليل والتقييم
واللافت أن مفهوم الفكر النقدي كثيراً ما يرد على ألسنة المراجعين، وأنصار الفكر الوضعي، والحالمين بالتغيير بوجه عام، ولكن ما المراد بالفكر النقدي في جوهره؟ الفكر النقدي، في ما نرتئي، هو التحليل والتقييم لأي طرح كان، بغرض تبيّن منطقيته واتساقه مع الواقع. يستند فيه العقل إلى الطروحات العلمية سواء في العلوم الصحيحة أو في العلوم الإنسانية والاجتماعية، بغرض معانقة الصواب المعرفي. وبالتالي، هو ما يشبه الآلة التي تتشكّل لدى الفرد، تَقيه الانخداع وسوء الفهم لذاته وللعالم. 
ومن ثمَّ يغدو الفكر النقدي بمثابة القدرة التي تتيح للمرء العيش في العالم وليس خارجه. وهو إن شئنا العقار المضاد للأوهام المعرفية والاغتراب المعرفي، والقدرة على كشف الحجج الباطلة والتحججات المخاتلة، وبيان زيفها وعدم جدواها وضررها إن لزم الأمر.

  • لوحة لكانط

في تراثنا القديم
ولو عدنا إلى مدلولات الفكر النقدي في تراثنا القديم، فهو يبدو جلياً انتقاداً للسائد المجتمعي والمألوف الاجتماعي، ونزوعاً إلى الخروج عما هو سائد، لِما تتبين فيه الذات المتبصرة من خوَر. ويورد الكلبي في «كتاب الأصنام» قصصاً طريفة في هذا السياق. ذلك أن رجلاً من كنانة، قَدِم إلى صنم سعد تبرّكاً وتقرّباً، فما راعه إلا أن نفرت إبله عند رؤية تلطّخ الصّنمِ بالدماء المراقة على جوانبه، فما كان من الرجل إلّا أن رمى معبوده بحجر، قائلاً: لا بارك الله فيك «إلهاً» أَنفرْتَ عليّ إِبِلي وأنْشدَ:
أَتيْنا إلى سعد لِيجمَع شملنا.. فشتّتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلّا صخرة بتنوفةٍ.. من الأرض لا يدعى لِغيّ ولا رشد
أو كموقف ذلك الأعرابي الذي لقي الثعلبان قد بال على رأس صنمه فعبس ثم فكّر وقدّر قائلاً:
أربّ يبول الثعلبان برأسه.. لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
وضمن هذا السياق يجعل الفكرُ النقدي الفردَ مستقلّ الإرادة وسيّد نفسه، بما يطهّره من المعتقدات الزائفة. 

تجاوُز السائد والمألوف
وهذا الحس النقدي، ذو المنزع العقدي، نجده في حضارات أخرى أيضاً، وهو ما تجلّى مع كسينوفان الإغريقي (ق. 6 ق.م) حين دعا إلى مقولة تعالِي الآلهة عن خاصيات البشر، حتى شاع قوله: «يرى الأسمر الآلهةَ فطس الأنوف، ويراها التراقي زرق العيون.. حتى الخيول والثيران لو قُدِّر لها أن تحسن الرّسمَ لَرسمت الآلهة في صورٍ مماثِلة لها»! وعلى هذا الأساس يقف الفكر الناقد في مجابهة الفكر الخامل الذي يرتضي بما هو سائد ومألوف.

تيار الإنسانوية
وفي مطلع العصر الحديث مثّل تيار الإنسانوية، مع توماس مور وإراسموس دي روتردام وخوان لويس فيفاس وجون كوليت، رافداً مهمّاً في التّحريضِ على النقد العقلي. إذ جمع الرُّباعيَّ شُغلٌ شاغلٌ هو الدّعوة الملحّة للمراجعة النقدية لأطر النظر. ولم تكن دوافعهم في ذلك عقلانيّةً خالصة ولا دينيّة خالصة بل إنسانية بالأساس. ولكن «الإنسانوية» في نهجها الطموح لم تعمّر طويلاً، لتَرِثها رؤية أكثر نضجاً باتت تعوّل على ملكة العقل المرافقة للإنسان، وتمثّلت في تيار العقلانية الذي كان من أبرز وجوهه كانط، وهو الذي أدرج النقد في مؤلّفاته العمدة الثلاثة: «نقد العقل الخالص» و«نقد العقل العملي» و«نقد ملكة الحكم»، ضمن سياق صوابية الفعل العقلي كشرط وكعضد، بوصف النقد أحد دعامات فلسفة التنوير.

صرامة فكرية
وفي زمننا الحالي تنوعت حقول النقد: النقد الأدبي، النقد الفني، النقد السينمائي، النقد المسرحي، وكأن هذه الحقول الرخوة وغيرها بحاجة ماسة إلى صرامة فكرية لفرز الصائب من الزائف، لِما يمكن أن يتلبّس بها من دخيل وطارئ وزائف ومغشوش. 
وأما على مستوى سياسي، فقد هدف الفكر النقدي إلى بناء المواطنين المسؤولين. وذلك بغرض تكريس ثقافة المسؤولية لا ثقافة الأداء فقط، وثقافة الاقتناع، ضمن ممارسة مستقلة للقدرات العقلية. إذ يذهب بعض المنظرين السياسيين إلى أنه في تعليم الفكر النقدي تكمن أهمية استراتيجية سامية، على صلة بالممارسة الصائبة في المجتمع. ذلك أن ممارسة الديمقراطية ونجاحها على صلة وثيقة بمستوى الأفراد (المواطنين) في التفكير والنظر للأشياء بشكل سليم، وبالتالي في اتخاذ قرارات صائبة حول قضايا شخصية وعمومية.

منحى إيديولوجي
غير أن ما أثار ريبة حول الفكر النقدي في الحقبة المعاصرة، أنّ النظر للأشياء وتقييم الأمور قد اتخذا منحىً إيديولوجياً، ولاسيما مع تطور الانتقاد الماركسي واليساري عموماً، للرأسمالية وللبنى الاجتماعية ولبعض القوى المتحكمة بالأوضاع الاجتماعية. وهو ما تطور بالخصوص مع لوكاتش وغرامشي، إلى حين أضحى الفكر النقدي متّهماً بالولاء الإيديولوجي، وهي إحدى المطبات التي دخل فيها النقد، كفعل مجرد، ولم يتسن له الخروج والعودة ثانية إلى التعويل على ملكة النقد المحض. 
ولكن الفكر النقدي، وبصرف النظر عن الحمولة الإيديولوجية التي ينبغي أن يتطهّر منها، هو مسعى للكشف عن فحوى ما هو سائد وبيان صوابيته، مستعيناً بشتى الأدوات والوسائل دون اعتماد الولاء العقائدي والانسياق الإيديولوجي.
غير أن التفكر الجيد في الأمور لا يتأتى من عدم، فهناك دُربة تنبني عبر سياق من البحث، كما يقول جون ديوي في مؤلفه «كيف نفكر». لأن الفكر بحثٌ وحفرٌ، وهو اختبار متجدد، وإحاطة واستقصاء، أو لنقل باختصار هو تساؤل. ومما يميز الفكر النقدي المتطور القدرة على انتقاد الفكر الذاتي، أي مراجعة ما أعتقد وما لا أعتقد، وفرز المحاسن من المساوئ، ومن ثَمّ إعادة صياغة الفكر بشكل أفضل، بغرض بلوغ الكائن الواعي بفكره والقادر على تفحص ما يعيه. 

استبطان المعارف
وتصبو العملية النقدية الواعية إلى إكساب المرء الرصيد اللازم للتعويل على العقل وعدم الاتكال على الغير. وعلى هذا الأساس يلوح الفكر النقدي بمثابة التربية التي يتدرب المرء عليها من خلال استبطان المعارف العقلية والعلمية، وفي غياب ذلك الرصيد قد يسود منطق الاتباع من دون روية أو الوثوقية المقيتة.
وقد يحصر الناس الفكر النقدي ضمن مجالين: المجال التعليمي (بوصف مجال التعليم والتعلم مجال تربية البشر) والمجال السياسي (بوصف فعل السياسة مجال فعل البشر)، والواقع أن الفكر النقدي في عمومه هو عونٌ لنا في جميع مناحي الحياة لفرز الخيارات وتمييزها، حتى نسلك مسلكاً صائباً. ومن ثَمّ يغدو النقد آلة ترقية وتجويد، بدونها قد يغرق الإنسان في الرتابة خلال مسار حياته.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©