عبدالوهاب العريض
أصدر د. سعيد بن مصلح السريحي ما يقارب 14 كتاباً، ومئات الأبحاث والدراسات، وهو عضو تحكيم عدد من الجوائز من بينها جائزة محمد الثبيتي وجائزة محمد حسن عواد والطيب صالح، وعمل في حقل التعليم ما بين الجامعي والعام ما يقارب عشرين عاماً. وبسبب أفكاره الحداثية والتنويرية سحبت منه شهادة الدكتوراه عام 1989، بعد أن منحت له عن رسالته الموسومة: «التجديد في اللغة الشعرية عند المحدثين في العصر العباسي»، وذلك «لما اشتملت عليه من أفكار لا تتفق وتعاليم الدين». وتفرغ السريحي بعدها للعمل الإعلامي في صحيفة «عكاظ» وأشرف على العديد من الملاحق الأدبية والمنوعة، وكان محاضراً في عدد من الجامعات العربية والعالمية، وصدر له مؤخراً كتاب «كي لا نصحو ثانية».
- وكان لنا مع الدكتور سعيد السريحي حوار انطلقنا في بدايته من العنوان الذي قال إنه جاء عن المجتمع، وإنه «يحيل إلى المجتمع السعودي حينما يتخذ صورة رسالة تحذيرية مزمنة تلتقط لحظة صيرورة تاريخية هي لحظة الخروج من عباءة الصحوة وملابساتها، المتمثلة في القرار السياسي الذي تصدى لهذه الصحوة، مع الخشية من احتمالات عودتها انطلاقاً من أن الفكر الذي لا يواجه بالفكر قد يبقى مثل النار تحت الرماد مصدر تهديد لأمن وسلامة المجتمع».
* «الصحوة» مركب مزجي جمع بين فكر «سلفي» متشدد وحركية جماعة «الإخوان المسلمين»، ظاهرة عابرة للحدود، كما أنها قابلة للتأقلم حسب المجتمع الذي تحاول الهيمنة عليه، فهي تتمظهر حسب البرنامج الحركي المرتبط بالظروف السياسية والثقافية والاقتصادية في ذلك المجتمع!
وهناك قواسم مشتركة بين تمظهرات الصحوة، كما أن هناك من الاختلافات ما يجعل للصحوة تأثيراً يختلف من بلد عربي إلى بلد آخر، وقد كان نصيب المجتمع السعودي، في فترة معينة، أن تكون فيه «الصحوة» أشد هيمنة وذلك يعود لجملة أسباب لنا أن نشير في عجالة إلى سببين منها، أولهما أن الصحوة هيمنت نتيجة لما يمكن اعتباره تعزيزاً وتشريعاً لها حين تمكن اللاجئون من جماعة «الإخوان المسلمين»، الذين تمت استضافتهم بعد إطاحة أنظمة عربية بهم، من التسرب إلى مواقع مؤثرة في مخرجات التعليم، وقريبة من صناعة القرار الثقافي على نحو بدا معه كأن الصحوة منتج أو صناعة «رسمية» تمثل أسلوب حياة في المجتمع السعودي! أما السبب الثاني فهو عدم وجود خطابات منظمة ومؤسساتية لمواجهة «الصحوة» كتلك الخطابات المتمثلة في الاتجاهات الأيديولوجية في دول عربية أخرى مثل الخطاب القومي واليساري، وذلك ما مكّن الصحوة من محاولة فرض مزيد من الاستبداد لرأيها في المجتمع السعودي، وبقيت مواجهاتها مجرد محاولات فردية لا تملك فعالية العمل الجماعي ولا الأدوات الممكِّنة من المواجهة.
اختراق الصحوة من الداخل
- أوردتم في الكتاب فصلاً حول لقاء تلفزيوني بثته إحدى القنوات الفضائية مع رجل دين حضرت معه زوجته اللقاء وكانت من دون حجاب، وما أثار هذا اللقاء من الأحاديث حول رجل الدين، هل في اعتقادك أن بعض رجال الدين يتغيرون سريعاً مع الموجة؟
* رجل الدين ظهر مع زوجته في لقاء تلفزيوني، وقد مثل حينها اختراقاً للصحوة من داخلها، ولذلك واجه من الصحويين والمتشددين هجوماً شرساً آنذاك وفقد بسبب موقفه ذلك وظيفته في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة. ولم يكن الاختراق الذي مثله موقفه متوقفاً عند حدود كشف زوجته لوجهها في لقاء تلفزيوني، وإنما هو اختراق أكثر عمقاً حين كشف عن نصوص كان دعاة الصحوة يتعمدون تغييبها لكي تتخذ الأحكام التي يطلقونها طابعاً قطعياً غير قابل للاختلاف! كانت آلية تغييب النصوص التي تناقض ما يعمل الصحويون على إلزام المجتمع به إحدى آليات الهيمنة، وما فعله رجل الدين ذلك إنما هو زعزعة لقطعية بعض الأحكام عبر استحضار ما هو مغيب من النصوص.
وإذا استثنينا رجل الدين الذي يحيل إليه السؤال، على رغم أنه واجه به الصحوة في عنفوانها، فإن ما يطرحه السؤال نفسه من قدرة الصحويين على التلون بحيث يلبسون لكل حالة لبوسها هو أمر واضح وجلي، وحسبنا مثالاً ذلك الشيخ الذي كان يفتي بتحريم زيارة مدائن صالح ثم لم يلبث أن أصبح داعياً لزيارتها. وأولئك الذين كانوا يحرّمون ويجرّمون قيادة المرأة للسيارة ثم أصبحوا بين يوم وليلة لا يجيزون قيادتها للسيارة فحسب، بل يعتبرونه أيضاً أمراً مستحباً ينبغي الأخذ به! ومن هنا يأتي الخطر الحقيقي لدعاة الصحوة ومنظريها، فهم بتبدلهم وقدرتهم على التلون يخاتلون المجتمع ويحاولون الإمساك بمفاصله.
حياة الجاهلية
- تحدثت في ما يقارب الفصل الكامل عن مقولة «كنا نحيا قبل الصحوة حياة الجاهلية»!، وهذا ما كان يردده كثير من رجال الدين كي يحاولوا خطف المجتمع إلى منطقهم المتشدد، ماذا يمكن أن تخبرنا عن تلك الحياة التي هيمنت على مفاصل المجتمع ما يقارب الأربعين عاماً؟
* شهدتُ، وشهد الجيل الذي أنتمي إليه، ما فعلته الصحوة بمجتمعنا حين تمكنت من التسرب في مفاصله وهيمنت على مقدراته، وكيف تمكنت من أن تبث بين الناس فكراً متشدداً كانت قاعدته التحريم وأداته التخويف والوقوع في براثن «المحتسبين»! وسعى دعاة الصحوة ووعاظها حينها من خلال ذلك لفرض التسليم بما كانوا يرون والاستسلام لما كانوا يريدون، فانغلق المجتمع على نفسه، واجتاحه شعور بالارتياب من الآخر والتنكر للبعد الإنساني الذي يربط بين الشعوب على اختلاف أجناسها ومذاهبها ودياناتها! وهيمنت عليه ثقافة شفاهية تفتقر إلى البعد الانتقادي وإعمال العقل والنظر العلمي، وضعفت همته عن العمل مما تسبب في تعطيل كثير من جوانب التنمية وأعاق الاستفادة من المنجزات العلمية وخاصة في العلوم الإنسانية التي ما فتئ فقهاء الصحوة يحذرون منها ويؤكدون «خطرها على ثوابت الدين»!.
مغادرة الجامعة
- أنت من أكثر المتأثرين داخل المجتمع من تلك التقلبات «الصحوية» التي مررنا بها آنذاك، حدثنا عن بعض المشاكل التي أثرت على مستقبلك الأكاديمي في الجامعة وأثناء عملك في الصحافة ضمن جريدة «عكاظ»؟
* أؤثر ألا أتحدث في هذا المقام عن تجربتي الشخصية وما عانيته من مشاكل خلال عملي في الجامعة وما ترتب عليها من إلغاء درجة الدكتوراه بعد عام من منحها لي وإجباري على مغادرة الجامعة، أوثر ألا أتعرض لذلك، ولا للمعاناة التي كنا نعانيها جميعاً في «عكاظ» كلما نشرنا مقالاً أو تحقيقاً كان يرى فيه المتطرفون خروجاً عما يرونه من «ثوابت الدين» وقيم المجتمع، ذلك أن ما حاق بالمجتمع كله لا يمكن أن يتم اختصاره في حادثة محددة لفرد أو مجموعة من الأفراد، فمجتمعنا كله، رجالاً ونساء، شيوخاً وشباباً، بل حتى الأطفال في مجتمعنا، لحقهم من الضرر ما هو أفدح من إلغاء درجة علمية أو مساءلة على مقال صحفي.
«الصحوة» في المجتمع العربي
- من خلال معاصرتك للصحوتين أثناء اختطاف ثقافة المجتمع وأثناء عودته للحياة الطبيعية.. كيف ترى تأثير الصحوة على تقدم الفكر العربي؟
* تأثير الصحوة على الفكر العربي كان خطيراً، وتأثيرها لا يزال مستمراً، الصحوة ربطت الفكر بالماضي، ليس الماضي بإشراقاته وقيمه الفكرية، وإنما الماضي بعد إعادة إنتاجه وفق ما كان يراه وعاظ الصحوة ودعاتها، الماضي الذي تم اختزاله في نصوص محددة مثلت تأويلاتها حجْراً على التفكير الحر وحجاباً بينه وبين المنجز في العلوم الإنسانية، كما غيبت الصحوة الفكر الانتقادي، الفكر القادر على النقاش والفلسفة والقبول والرفض، الفكر المؤمن بالحوار، ولذلك تحجّر الفكر العربي، تعوّد على اجترار الماضي ولم يمتلك القدرة على تفهم الحاضر، فضلاً عن استشراف المستقبل.
- في اعتقادك هل كان الفكر العربي قادراً على مواجهة الخطاب الصحوي الذي كان سائداً في تلك الفترة؟ وهل هناك إمكانية لنهضة الخطاب العربي من جديد؟
* الفكر لا يقاس بكونه فكراً تنظيرياً بحتاً فحسب، الفكر يقاس بأثره، بقدرته على التأثير، بمقدرته على تغيير المجتمع أو تصحيح مساراته وتوجهاته، وإذا لم يكن من العدل أن ننكر أن هناك فكراً حراً حاول جاهداً مواجهة «الصحوة»، إلا أنه ليس بوسعنا إلا أن نعترف بأنه كان فكراً معزولاً عن حاضنته الاجتماعية، فكراً تدور حواراته داخل أروقة الجامعات وفي الملتقيات والمؤتمرات العلمية. حاولت الصحوة أن تعزل المفكرين عن المجتمع، أن تشيطن أعمالهم، أن تقيم بينهم وبين المجتمع حجاباً فلم يفعل فعله ولم يعط الأثر المتوخى منه، ولذلك لم يكن هناك من سبيل للنجاة من الفكر الصحوي وتنظيمات جماعة «الإخوان المسلمين» إلا وفق قرار سيادي سياسي استشرف المستقبل، وأدرك أنه لا يمكن بناؤه إلا بتحرير المجتمع من سلطة جماعات الإسلام السياسي وهيمنة الفكر الصحوي.
الخلط بين المفاهيم
- ألا تعتقد معي بأن الفكر العربي مع دخول الألفية الثالثة يمر بأزمة من خلال الانفتاح الكوني على وسائل التواصل الاجتماعي، والكثير من السجالات التي جعلت هناك خلطاً ما بين مفاهيم الهوية والفكر وأساليب المعالجة؟
* أتفق معك أن وسائل التواصل أحدثت خلطاً في المفاهيم المتصلة بالهوية والفكر وأساليب المعالجة، وسائل التواصل أدخلتنا في متاهة من الفوضى التي لا نعرف معها كيف يمكن إعادة تصحيح المفاهيم والارتقاء بالوعي، وسائل التواصل عملت وتعمل على إنتاج فكر زائف. ولكن دعنا ننظر للمسألة من زاوية أخرى فنرى فيها أمراً طبيعياً علينا أن نتوقعه ونتفهمه. والتوقع والتفهم هو أول الخطوات للعلاج. وسائل التواصل مثلت فردوساً كان مفقوداً حين كانت وسائل النشر محصورة في صحف وقنوات رسمية أو شبه رسمية مثل أبراج عاجية لا يكاد يصل إلى شرفاتها إلا النخبة. وسائل التواصل مكنت كافة أفراد المجتمع من التعبير عما يرون، بصرف النظر عن عمق رؤيتهم أو معرفتهم بسبل التعبير عن هذه الرؤية، ولذلك فإنني أعتقد أن مرحلة الفوضى هذه مجرد مرحلة سيتجاوزها المجتمع حين تتضح له الرؤية ويمتلك وسائل التعبير عنها.
تغير منهجية الخطاب
- هل نحن بحاجة لخطاب عربي متجدد؟ وما هو هذا الخطاب من وجهة نظركم؟
* لا سبيل للعالم العربي للخروج من مأزقه التاريخي الذي انتهى إليه بغير هذا الخطاب الجديد والمتجدد، شريطة أن يكون خطاباً مجتمعياً يسري داخل المجتمع وتتمثّله كافة شرائحه وطبقاته، وليس مجرد خطاب نخبوي قاصر على فئة من المثقفين والمفكرين لا يتجاوز عتبات جامعاتهم وملتقياتهم ومنصاتهم العلمية. كما يكون خطاباً قابلاً لإنتاج برامج واستراتيجيات وخطط عملية تعالج التحديات التي تواجهها كافة مناشط الحياة الثقافية والاقتصادية والسياسية والتربوية في المجتمع. كما ينبغي أن يتسم هذا الخطاب بالقيم العلمية والأخلاقية من حيث قابلية التعدد وحق الاختلاف وحرية التعبير واحترام الرأي الآخر.