الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الفكر العربي.. والحداثة المؤجلة

الفكر العربي.. والحداثة المؤجلة
27 أكتوبر 2022 02:34

ساسي جبيل

من الاسئلة المطروحة اليوم بإلحاح في العالم العربي سؤال الفكر الذي ظل مفتوحاً على أكثر من احتمال، في الوقت الذي انحسر فيه حضوره العالمي نوعاً ما، إضافة إلى غياب مفكرين عرب فاعلين قادرين على زعزعة بعض ما يتعين تجاوزه، وإيجاد بدائل فكرية قادرة على تسجيل حضورنا الفاعل في مشهد الفكر العالمي.
«الاتحاد الثقافي» طرح هذا السؤال على عدد من المفكرين والأكاديميين العرب وخرج بالقراءات والمقاربات التالية.

حميد زنار: ضرورة مواجهة الأصولية
يؤكد الكاتب والمفكر الجزائري حميد زنار أنه لا فائدة ترجى من فكر يفتقر إلى روح النقد الرصين. وراهناً ينبغي أن تكون قضية الفكر العربي الأولى هي تفكيك وتعرية الوهم الإسلاموي الذي يشحن الناس بشتى السبل سعياً لعدم الانتماء إلى العصر الذي يعيشون فيه.

توفيقية فاشلة
لقد وصل الفكر العربي بعد محاولة التوفيق الفاشلة بين التراث والحداثة إلى مرحلة حاسمة، هي مرحلة «إما.. أو»، إما أن يرضي أوهامه أو يحسّن الواقع؟ التراث أو العقل؟ فتلك العلاقة المرتبكة بين الفكر العربي والتراث هي العائق الأساسي المُكبّل له في بعض الأحيان. ولا مهمة مستعجلة للنهوض بهذا الفكر غير فلسفة المطرقة والنقد. فـ«مقدار الحقيقة التي يمكن لعقل أن يتحمّلها بل يجرؤ على تحمّلها، هو المعيار الحقيقي بالنسبة إليّ، أو هكذا يقول الفيلسوف نيتشه، في تحديد القِيَم. 
ولأسباب كثيرة تجنبت الأجيال السابقة من المفكرين العرب الاحتكاك المباشر مع بعض الوثوقيات. ومن حسن الحظ أن هناك جيلاً جديداً من المفكرين يطرق الأبواب ويضرب بمطرقته ضربات جدية في العقل والفضاء الثقافي العام، وهو ما سيحرر الفكر العربي ويجعله فكراً يجترح تَعقُّل الواقع وخوض مغامرة الحداثة دون قيود.
وفي الواقع نلاحظ أن الفكر العربي مع الجيل الجديد، بدأ يصمد، شيئاً  فشيئاً، ومعه قوى الحرية أمام قوى التخلف والتطرف التي كثيراً ما تخرج ترسانتها الإرهابية.

فكر عربي جديد
وأمام الفكر العربي إمكانيات لا حدود لها وأبواب مشرعة اليوم وفرتها تكنولوجيات الاتصال الحديثة، ستحرره نهائياً من بعض أوجه الرقابة. ولن يحتاج المفكر الحر لرخصة اليوم أو لإذن لينشر أفكاره في كتاب على أمازون، أو قول ما يريد قوله على اليوتوب. وسيتبلور على المدى القصير فكر عربي جديد في المنطقة ينجز القطيعة الحاسمة، وسينتقل العالم العربي إلى مرحلة جديدة من التنوير.

فتحي التريكي: الفكر الارتكاسي والتجاوز الممكن
قال المفكر والفيلسوف التونسي فتحي التريكي: لعلّ المتأمل في معطيات الفكر العربي كما تتوظف اليوم في المجالات الحياتية العامة يلاحظ من أول وهلة الشرخ العميق الذي يسكنه. فمن ناحية تتقبل معقوليته كل ما يرد عليها من تكنولوجيات متطورة، ولكنها في الآن نفسه ترفض أيضاً كل ما يجعل هذه التكنولوجيات ممكنة، ونعني الحداثة ومستتبعاتها. وكذلك يستعمل أحدث الثورات العلميّة كالبرامج التلفزيونية الرقميّة ليمرّر خرافات وأساطير!
وقد يزداد هذا الشرخ عمقاً عندما نعرف أن مرجعية هذا الفكر تبقى دائماً متأصّلة في الماضي، حتّى وهو يحاول استيعاب نتائج العلوم والتكنولوجيا. ولذلك يبقى هذا الفكر الارتكاسي مستهلكاً غير مبدع، وغير قادر على الحضور في العالم.

النقد العلمي العقلاني
ولكن، كيف يتمظهر هذا الفكر العربي بشرخه العميق؟
1- لعل أول أمر يلفت انتباهنا هو أن معقولية هذا الفكر ما زالت في طور التجميع والتأريخ والنقل والشرح والتفسير. ولم تصل بعد إلى طور التأليف والابتكار والإبداع والإنتاج الحقيقي للأفكار والمفاهيم والتصورات إلا ما ندر. فهي إذن معقولية نقلية في الأساس، لم تستطع إلى يومنا هذا أن تقفز قفزة نوعية نحو مرحلة النقد العلمي والجذري الحقيقي.

2- أن هذه المعقولية للفكر العربي الآن لا تزال في مرحلة الوجداني والانفعالي. وقد شدد الفلاسفة منذ أفلاطون على «حيوانية» هذه المرحلة واعتبروا أن الإنسان يكتسب إنسانيته متى استند للعقل، ومتى أصبح يتعامل مع حياته اليومية بالعقل، لا بالعواطف والوجدان وحدهما. وفي قناعتي أنّ الفكر العربي يحتاج اليوم إلى إعادة نظر، وإلى صياغة جديدة إن لم نقل تفكيكاً كلياً. لأن الخطر الأكبر يتمثّل في عدم القدرة على النقد الجذري لأوضاعنا وفكرنا وثقافتنا.

مرتكزات الانتماء الحضاري
ولذلك يستوجب النقد في الثقافة العربية حالياً إعادة صياغة بعض المفاهيم والتصورات اللازمة لإعادة بناء نهضة عربية جديدة تقوم على مكتسبات فلسفة النهضة، وتطور مرتكزات انتماءاتنا الحضارية، وتجذّر ملتزمات تحديث أنماط حياتنا وتأقلمها مع مستجدات الحداثة. ويبدو لي أن مبادئ تقدمنا الحضاري الآن لا تكمن أساساً في بعدها التكنولوجي ومن خلال تطور العلوم واكتساب التقنيات الضرورية لتكوين مجتمع المعرفة، بقدر ما تتموضع داخل تصورات متجددة يجب استئناف البحث فيها تحت معطيات واقعنا. وبذلك يكون الفكر مؤسّساً لمستقبلنا الإبداعي.

عبدالحميد لرقش: الحرية روح الفكر
المؤرخ التونسي عبد الحميد لرقش أكد أننا عندما نذكر الفكر العربي اليوم في مواجهة تحدّيات العولمة، فإن أوّل ما يتبادر إلى ذهننا هو جملة المعوقات التي تكبّل هذا الفكر وتمنعه من التحليق عالياً ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:

غياب الحرية
فالحرية تمثل الروح التي ينمو بها كلّ فكر ويسمو إلى الكونية. وكانت الحرية شعار الثورات الكبرى عبر التاريخ وحملتها النخب الفكرية وقادت بها شعوبها. أما نحن فإن الثورات التحررية التي قامت في أقطارنا منذ عقود لم تترك المجال للنخب العقلانية لأن تؤدّي دورها كاملاً في نقد الإرث وتجديد الفكر.
وقد حاول طه حسين تطوير مناهج التربية والتعليم في مصر فكان بعض علماء الأزهر في مواجهته وانتصر الأزهر. وحاول الطاهر الحداد الدعوة إلى تحديث المجتمع وتحرير المرأة فعزله علماء الزيتونة ومات وحيداً في محنته. واليوم على رغم تغيّر الأوضاع وبروز النخب العقلانية في الجامعات وفي الإعلام وفي مراكز البحث، فإن العقلانية لم تنتصر كمنهج وكنمط تفكير عند أغلب أجيالنا، بما فيها المتعلّمة منها أحياناً.

الفكر الخرافي
فالفكر الخرافي ما زال يزحف على بعض العقول. وانتعش بذلك الإسلام السياسي على حساب النزعات النقدية والعقلانية في المجتمع. فتحرير الفكر العربي مرهون برفع المعوقات السياسية والثقافية. وحرية التفكير والإبداع هي شعار الوقت الراهن. ودليلنا على سلامة طرحنا أنه كلما توفرت الظروف لدنيا لذلك، تنفس الفكر العربي وأبدع.
والعقلانية التي ننشدها هي تلك التي تضعنا أمام مسؤولياتنا في العالم فنساهم في إعادة تركيب الأنساق ونكون بذلك جزءاً من عملية البناء وإعادة البناء.
وحتّى نفتح عقول الأجيال الصاعدة على القيم الكونية الخالدة، فلابد للنخب الجديدة أن تخرج عن صمتها وتخوض معارك الحرية والالتزام بقضايا الشعوب. فمقاومة الفكر المتطرف هي معركة المصير بالنسبة للفكر العربي المعاصر.

عبد الواحد المكني: اليقظة الشاملة والنهضة الحديثة 
أكد عبد الواحد المكني أستاذ التاريخ المعاصر والأنثروبولوجيا التاريخية ورئيس جامعة صفاقس التونسية، أن الفكر العربي عاش مرحلة من التراكم تميزت أولاً بصدمة الغزو والاحتلالات التي بدأت من حملة نابليون على مصر إلى ستينيات القرن الماضي، وفي تلك المرحلة المهمة والحساسة، كان التحدي هو اليقظة الشاملة والنهضة الحديثة وامتلاك ناصية العلوم والمعرفة دون الوقوع في عقدة التغني بأمجاد الماضي التليد ورومانسية التراث الزاهر والزاخر.

الممانعة المتشنجة
غير أن هذه المحاولة ظلت مشدوهة، بل مشدودة إلى عقدة رفض الاقتباس والممانعة المتشنجة وعدم استيعاب الفارق التقني والفكري والمعرفي لحاضنة الحداثة. وأدى كل هذا لانبثاق إرهاصات مشروع حداثي تبناه الفكر العربي لبناء كيانات الدولة المستقلة الحديثة والمجتمع العصري، ولكن نسق البناء والتجسيم كان يسير ببطء شديد. وفي هذه الأثناء توثبت الاتجاهات المتشددة من جديد وشككت في مقولة الحداثة والتحديث وزادتها انتصارات القوى الماضوية، مما ساهم في انتكاسة متجددة لقوى التغيير الحداثي.
وفي فترة ما بعد أحداث 11 سبتمبر وقع تحول جديد زعزع بعض ثوابت الفكر العربي مرة أخرى، بانبثاق فكرة التحدي التكنولوجي الممكن وتضاعف أمل المتسرعين والمتهافتين في إمكانية الطفرة التاريخية، وحق النفاذ إلى السيطرة ولو الجزئية على التطور التقني وخاصة السيبراني.

المنهج التوليدي الخلاق
وتسرع البعض من جديد ولم يعقلنوا آليات الاستيعاب واختاروا النتائج العاجلة على العمل المركز والمنهج التوليدي الخلاق، وكانت ثقتهم في ديمقراطية «الثورة السيبرانية» شبه عمياء! ولكن تجلت في الفترة الأخيرة، وخاصة بعد عواصف ما سمي «الربيع العربي» وانتكاساته غير المحمودة، والرغبة الفياضة، بل التخطيط الهادئ للاستعاضة عن التسرع والطموح الطافح بالسرعة التي صارت تستمد تمهّلها من الواقع والواقعية. إنها على الأرجح بداية امتلاك قاطرة المعقولية والسير في طريق الصواب.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©