حوار: عبدالوهاب العريض
بمجرد حضور اسمه تقفز إلى الأذهان مجلة «العربي» الكويتية، وما قدمته في ثمانينيات القرن الماضي من المقالات الفكرية التي ساهمت في بناء ثقافة الإنسان الخليجي والعربي، إنه المفكر الكويتي الدكتور محمد غانم الرميحي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة الكويت سابقاً، ورئيس تحرير مجلة «العربي» ما بين 1981 و1998، كما أصدر عشرات الكتب حول التغير الاجتماعي والسياسي في الخليج وفي الشؤون العربية، وأثناء غزو العراق للكويت أصدر الرميحي جريدة «صوت الكويت» التي حملت هموم الكويتيين وكفاحهم ضد الغزو. وهو صاحب حضور ثقافي في المحافل الخليجية والدولية، وساهم في العديد من اللقاءات الفكرية العربية والدولية. كما أنه عضو بارز في العديد من المنظمات الخليجية والدولية وله مقالة أسبوعية في جريدة «الشرق الأوسط».
وفي هذا الحوار مع «الاتحاد الثقافي» حاولنا التركيز على أزمة الفكر العربي في ظل المتغيرات العالمية، وتحولات الألفية الثالثة المرتبطة بمصادر المعرفة وتقنية الاتصال والتواصل، وأين يجد الرميحي وضع الفكر العربي في ظل هذه المتغيرات؟
بداية يقول الدكتور محمد الرميحي: نعم التحول في مصادر المعرفة في السنوات الأخيرة مر بثورة غير مسبوقة في المحتوى وفي السرعة، ولذلك نشأت لدينا مصطلحات مثل «الأخبار الكاذبة» أو «الاقتصاد في رواية الخبر» أو حتى التزييف البصري، كأن يمكن أن تجد أحد السياسيين الكبار، مثلاً، يغني أغنية هابطة وقد يعتقد البعض أنها صحيحة! كما أن وسائل الاتصال، التي حدث فيها هي أيضاً ثورة، يمكن أن تنقل لك صورة من الساحة وواقعية تماماً ومرتكب العمل لم يكن يتوقعها! ولذلك يتعرض (العقل) العربي الى موجات كثيفة من المعلومات والأفكار يحار فيها بين الحقيقي والمزيف. وقد لاحظت دراسات كثيرة ان «المزيف» يسري بين الناس أسرع من الحقيقي، لأن الطبيعة البشرية تحب «الغريب والمفاجئ واللافت».
ومن جانب آخر فإن هناك ما يمكن تعريفه بـ«نقص المناعة الثقافية» لدى الجمهور العربي الواسع، فيصدق ما تضخ وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من غث، وتستفيد القوى المنظمة وحتى بعض الأجهزة في الدول من هذه الفوضى لتمرير أجندتها، في الوقت الذي تعجز فيه أو تقصر مؤسسات التعليم في إنتاج جيل قادر على المراجعة والنقد والتفكير خارج الصندوق، فيصبح لدينا شبه (قطيع) من البشر المبرمجين. أما إذا دخلت الأيديولوجيا في الموضوع فيصبح المشهد أكثر قتامة، كأن تقوم قوى (الإسلام الحركي) ببث أفكار سياسية أو (خرافات) واعتبارها من الإسلام، وقد يصدق كثيرون تلك الأفكار لأنه أصبح لهم قاعدة في التعليم (الحفظ والتسميع) دون المراجعة النقد. كما أن الفكر العربي بشكل عام مقيد بقيدين (الأول هو بعض سياسات الدول) والثاني هو (قيود الثقافة الاجتماعية) وهما صخرتان عوقتا أحياناً التفكير الحر المنطقي في فضائنا الثقافي العربي.
أزمة الفكر العربي
* عقدت خلال الخمسين سنة الماضية العديد من المؤتمرات وحلقات النقاش، وكذلك صدر الكثير من الكتب التي تناقش واقع الفكر العربي وتحولاته، وكونكم أحد الأسماء البارزة في هذه المناقشات، هل تستطيع أن تحدثنا عن واقع أزمة الفكر العربي؟
ربما هي أزمة نابعة من القيدين السابقين (بعض سياسات الدول) و(قيود الثقافة العامة)، أضف إليها ضعفاً في سوية التعليم العام والجامعي واحتكاراً لوسائل الإعلام، وبالتالي التضييق على الفرد في أن يكون مفكراً حراً ينظر في الظواهر المختلفة ويقدم لها التحليلات المنطقية، وخاصة في الموضوعات الاجتماعية والإنسانية. وتلك ظاهرة عرفتها الشعوب الأخرى وقد قامت شعوب بحلها أو محاولة حلها بإطلاق حرية التفكير إلا أنه حتى هناك تجد معوقات كثيرة. حالة فهمنا لمجتمعاتنا وتحولاتها لا زالت قاصرة، خذ مثلاً حياً في مجلس الأمة الكويتي، هناك لجنة دأب المجلس على إنشائها اسمها (لجنة محاربة الظاهر السلبية)، وهي الوحيدة في كل برلمانات العالم وهي لجنة (وصاية) من أناس تم انتخابهم على منتخبيهم، ولم يثر نقاش واسع على أن تلك اللجنة (مخالفة للمنطق وللعقل) فأي ظواهر سلبية تريد محاربتها؟ ومن يحدد تلك الظواهر والمجتمع محكوم بقوانين ودستور. السكوت عن هكذا (ظاهرة) يعني أن المجتمع بشكل عام والمشرعين بشكل خاص (ليسوا معنيين) بضبط المصطلحات، وعندما نفقد ضبط المصطلحات (وهو ظاهرة ثقافية عربية) نفقد أشياء كثيرة في الفضاء الثقافي.
أزمة الهوية
* كثيراً ما يتم الربط ما بين أزمة الفكر العربي وأزمة الهوية، ماذا تقول في ذلك؟
من جديد ذلك أمر مضخم في موضوع الهوية في القرن الحادي والعشرين والعالم منفتح من حيث المواصلات والاتصالات التي تربط الشرق بالغرب والجنوب بالشمال، لا يوجد شيء اسمه هوية خالصة، فالثقافات تختلط ببعضها بعضاً، وفي بعض الأوقات يكون القانون الدولي له غلبة على القانون المحلي، البعض يأخذ من الهوية ذريعة للبقاء في المكان. فأن تكون مثلاً مصرياً لا يعني أن لا تكون عربياً أو حتى مواطناً دولياً، وأيضاً هناك خصوصيات ولكنها من المفروض ألا تصطدم بالهويات العالمية العريضة. لقد أصبح الطعام الصيني دولياً والفرنسي والإيطالي والعربي، كلها لها خصوصية وبعد يتعدى الخصوصية.
مستقبل الثقافة العربية
* كيف تنظر إلى المستقبل الثقافي العربي؟
دون حريات سيظل الفكر العربي مقيداً، علينا أن نتذكر محاولة اغتيال نجيب محفوظ واغتيال فرج فودة وصفّ طويل من المعاصرين.
كما أن اغتيال المفكرين تاريخياً ثابت في أي كتاب تاريخ للفكر العربي، كما أن هناك اغتيالاً معنوياً كما حدث للمرحوم نصر أبو زيد، وغيره ممن حاولوا أن يفكروا خارج الصندوق. ويسود في عالمنا اليوم الفكر الظلامي إما في صورة فكر (كما في حالة بعض «شيوخ الدعوة») أو في صورة أخرى (كما في حالة الجماعات التي تدعو إلى «الدولة الإسلامية»)، على غموض المصطلح وفشل محاولاته كما حدث في مصر والسودان وتونس وكما نشهد من أزمات في إيران! ويقوم البعض بفتح أبواب الإعلام لـ«شيوخ الدعوة» إما قصوراً أو جهلاً أو مساهمة في تضليل العقل العربي أو خوفاً من المواجهة. أمام هذه الصورة فإن فرص تطوير الفكر العربي تظل محدودة!
تجاهل مرعب
وعن أهمية دور وحضور علم الاجتماع يقول د.محمد الرميحي: مع الأسف هناك تجاهل مرعب لأهمية علم الاجتماع ولمفهومه كعلم صعب وفق المعايير الحديثة لمفهوم العلوم، ناهيك عن طريقة دراسته وطريقة تدريسه الكلاسيكية في معظم جامعتنا. ففي الغرب اجتهد علماء الاجتماع لتفسير المظاهر التي واجهت مجتمعاتهم، وهي تتغير وتنتقل مع تغير نوع الإنتاج من الزراعة إلى الصناعة إلى خدمات التقنية، وأنتجوا عدداً من النظريات، لأنهم فهموا أن علم الاجتماع ليس علماً إستاتيكياً جامداً، بل هو من العلوم المتغيرة التي لا يمكن التحكم بمخرجاتها على عكس العلوم التطبيقية البحتة، لأنها تستهدف معرفة النفس الإنسانية، وفهم علاقتها بالمحيط المتبدل حولها، وفق معرفة علمية (لا عاطفية) تقوم على منهج اجتماعي وثقافي، على عكس المفهوم السائد في ثقافتنا حول تقسيم العلوم الذي لازلنا نترواح حوله مع الأسف، بحيث نُعلي من العلوم البحتة التطبيقية، وننظر باستخفاف لمكانة وأهمية علم الاجتماع في حياة مجتمعاتنا العربية.
مشروعات طموحة
* ما هو رأيكم بالمشهد الثقافي الراهن وطبيعة الجهود المبذولة في دولة الإمارات العربية لنشر الثقافة والفنون وتبيئتها مجتمعياً؟
لدى دولة الإمارات العربية مجموعة ضخمة من المشاريع الثقافية الطموحة، وتبذل الجهود المطلوبة لتطويرها، كما لديها عدد من الجامعات المرموقة، وهذا يعني أن هناك مشروعاً ثقافياً تعمل عليه، وتطمح للوصول إليه.
* كيف تصف طبيعة الإصلاحات والتغيرات الثقافية والاجتماعية في المملكة العربية السعودية؟ وأين نضعها في سياق المشهد الفكري العام؟
أنا متفائل بما يحدث في السعودية من تطور وأعتقد أن التراكم الكمي الذي حصل في السعودية من تعليم، وإدارة، واقتصاد، يتحول اليوم إلى تراكم كيفي، فهناك تحولات اجتماعية حميدة ومستحقة.