إبراهيم الملا
هي سيّدةُ المِزاجِ، ومانِحَةُ الأُنْسِ، وصانِعَةُ الشّغَف، وللنّاس في تحضيرها وإِعدادِها: طرائِقُ ومشارِبُ ومذاهب، أمّا في لونها الداكن فثمة بريق لا يراه سوى الحالمين، وأمّا في عَبَقِها الفاتن فثمّة استحقاق لا يناله سوى العاشقين، أَقامَ أَرْكانَها المدّاحون، وأثنى عليها الزهاّد والنّاسكون، وتغنّى بسحرها الشعراءُ والمنشدون، فقال فيها المولى أحمد بن شاهين الشامي:
«وقَهْوَةٌ كالعنبرِ السحيقِ
سوداءُ مثل مُقْلَةِ المعشوقِ
أتَتْ كمِسْكٍ فائحٍ فتيقِ
شَبّهْتُها في الطّعم كالرّحيقِ
تُدني الصديق من هوى الصديقِ
وتربط الوِدّ مع الرّفيقِ
فلا عَدِمْتُ مَزْجَها بِريقيِ».
ويقول عنها أحد الفلاسفة: «المجد لمن يعدّون قهوتهم في الليل بصمت» ويقول آخر: «حنونة هي القهوة، حين تقدّم لنا روحها في سبيل الارتقاء بمزاجنا»، ويصفها أحدهم بأنها: «أيقونة السهر، وأخت الوقت التي تُحْتَسى على مَهْل».
ويحتفي العالم في شهر أكتوبر من كل سنة بالمسار التاريخي المدهش الذي أنتج لنا سحر «القهوة»، وجعلها على مرّ العصور مثالاً صارخاً للتمازج بين نقيضين، فهي رفيقة العزلة عندما يتعلّق الأمر بالتفكّر والتأمل والتبصُّر والإلهام، وهي نديمة الصحبة والألفة والاجتماع، عندما ساهمت بقوة في نشوء المجالس الشعبية قديماً، وظهور المقاهي الضاجّة بالحوار والنقاش والجدال حديثاً، وهي حاضرة أيضاً في الأفراح كما في المآتم، ولها من البَهْجَةِ قِسْمَةٌ، ومن الحُزْنِ نصيب.
«شراب الصالحين»
شكّلت القهوة علامة فارقة في الحراك التصاعدي للتطوّر البشري، ابتداءً من اللحظة الغرائبية التي اكتشف فيها أحد الرعاة الإثيوبيين وقبل قرون سحيقة، التأثير المنشط لحبوب القهوة الشبيهة بثمار الكرز، مروراً باحتفاء المتصوفة اليمنيين بها ونعتها بـ«شراب الصالحين»، ونشرها لاحقاً في أرجاء الدنيا، وصولاً للثورة الثقافية الكبرى بأوروبا أواسط القرن الثامن عشر حتى بدايات القرن العشرين، عندما أصبحت المدن الحديثة منطلقاً لولادة التوجهات الفلسفية والأدبية والفنية الجديدة، وتسيّد التحليلات النفسية المغايرة، واكتساح النظريات العلمية المتقدمة، حيث كانت المقاهي وسط هذه المدن هي منارة الحداثة بامتياز. وشاركت القهوة بمكوناتها المتفردّة وخواصّها العجيبة في تحفيز الذهنية الإنسانية النشطة والمُتَفَتِّحة على التطوّرات والقفزات الأيديولوجية والمعرفية، ومن هنا صارت القهوة أيقونة للتقدم البشري وباتت هي المشروب الأكثر ارتباطاً بصباحات المؤسسات العمّالية، وبمساءات النخب الثقافية والفكرية في ذات الوقت.
وكما ذكرنا فقد استخدمت القهوة في طقوس وشعائر المجالس الصوفية فسموها: «شراب الصالحين»، حيث إن أصل كلمة القهوة يعود إلى تأثيرها فهي تقهّي الإنسان، أي تشبعه بسبب الخمائر الثقيلة فيها، ولذلك كانت العرب تطلق إثم القهوة على أنواع من النبيذ المُشْبِعة، والتي تجنب الإنسان إحساسه بالجوع، وجاء هذا الربط بين النبيذ والقهوة في قصيدة شهيرة للشاعر أبي نواس يقول في مطلعها:
«يا خاطِبَ القَهوَةِ الصَهباءِ يَمهُرُها.. بِالرَطلِ يَأخُذُ مِنها مِلأَهُ ذَهَبا»
إلى أن يقول:
«فَاستَوحَشَت وَبَكَت في الدَمنِ قائِلَةً
يا أُمُّ وَيحَكِ أَخشى النارَ وَاللَهَبا»!
ومن هنا أيضاً أثارت القهوة بعد انتشارها جدلاً كبيراً وسجالاً واسعاً بين الفقهاء ورجال الدين المسلمين وحتى بين القساوسة والرهبان في الحواضر الأوروبية القديمة، فهناك من حرّمها، وهناك من أباحها، ولكن القهوة صمدت في النهاية أمام تقلبات الآراء والأحكام، وتصدّرت المجالس الخاصة والعامة، واشتق من اسمها: «المقهى» فصارت عنواناً للألفة والتآلف، والصحبة والاندماج، لتكون عابرة للأزمان، وآسرة للحواسّ، وماثلة في الأذهان، وصارت المقاهي بكافة أنواعها المتواضعة منها والفارهة، هي ملتقى المثقفين، وموئل المبدعين، وموعد المفكرين.
تاريخ وتقاليد القهوة
لقد تشكّل الأثر الثقافي للقهوة في سرديات ونتاجات الأدب الإماراتي، من خلال تراكمات زمنية متعاقبة، بدأت مع تاريخ وتقاليد القهوة في المكان، والمتمثّل في التراث الشعبي، والفلكلور المحليّ، والنسيج الاجتماعي، وصولاً إلى الأزمنة الحديثة، التي أصبحت فيها ثيمة: «القهوة» ذات مدلولات تعبيرية وجمالية متنوعة وعميقة، وجدت لها صدى وترجماناً في القصيدة والرواية والمسرح والتشكيل والسينما، كما كان لها أثرُ ثقافيٌ واضحٌ، وحضورٌ اجتماعيٌ لامعٌ في المقاهي الحديثة المنتشرة في إمارات الدولة، وخصوصاً مع ازدياد الوعي المتعلق بتصنيفات القهوة وأنواعها وأصولها واختلاف مسمياتها وطرق إعدادها.
وفي كتاب مهم بعنوان: «صوت الرشاد.. تاريخ وسنع القهوة في دولة الإمارات» تقدم الباحثة الإماراتية: غاية خلفان الظاهري دراسة موسعة وشاملة وثرية موضوعياً وبصرياً حول بدايات ظهور القهوة في التراث الشعبي، وتقول في بداية الكتاب: «القهوة صاحبة السّيرة والمسيرة في التراث العربي الثقافي، الممتد في جذوره عبر العصور الموغلة في القدم، عابرة إلى المستقبل، بالرحيق والأريج، فهي للكرم عنوان، ولا يوجد ما هو أفخر في الضيافة الإماراتية من فنجان قهوة مُزِجَ بالهِيلِ والزّعفران».
وتضيف الظاهري أن القهوة حبشية المنبت، عربية الهوى، وأن متصوفة اليمن وجدوا في شراب القهوة تخفيفاً للدماغ، وإبعاداً للنعاس، فساعدتهم في قضاء العبادات والذكر في لياليهم الممتدة والطويلة.
وتشير الظاهري إلى أن على الباحث عن سر القهوة وأدبياتها في مجتمع دولة الإمارات البحث أولاً عن «سنع» أو طرائق إعداد وتقديم القهوة، والسنع أيضاً في اللغة هو ما يُضرَبُ به الوصف، فيحيل إلى الكمالات الاجتماعية والعادات الحميدة والتقاليد الحسنة كونها مثالاً وقدوة، وتؤكد الظاهري أن طقوس إعداد القهوة الإماراتية تكشف عن مفردات «السنع» الثقافية، لتفعيل أدواره في الحياة اليومية، من خلال نشر قيم الكرم والنخوة والإيثار، وتستلهم الباحثة محطات بصرية وسمعية من ذكريات طفولتها في مدينة العين التابعة لإمارة أبوظبي، لتسرد المعجم اللفظي للقهوة ولوازمها في اللهجة المحلية، فتشير إلى الأيام المعطّرة برائحة البنّ المحمّص على نار حطب: «اليريبي» حين سمعت صوت «الرشاد» وهو يرنّ في «المنحاز»، لتسجّل في أعماق ذاكرتها صورة موقد النار: «الكوار»، الذي رأت في وسطه: «ميهالاً» من الجمر الأحمر، تحيط به دلال نحاسية أتقن «الصفّار» صنعها، فأسرف عليها من إبداع الزخرفة، نقوشاً تحمل رموزاً ودلالات معبّرة عن أصالة الإنسان الإماراتي.
تجليات القهوة أدبياً
ترى غاية الظاهري أنه مع رفاق الفنجان والدلّة في المجالس الإماراتية القديمة، بدأت القرائح تجود بما في مخازنها من أنس الجليس، وطرب الأنيس، فقامت الألسن تشدو بسحر الكلام، ساردةً حكايات الحياة، وشاملةً مختلف صنوف القصص والأشعار، وروايات المواسم، وصمود الإنسان، يغنّيها الزمن طرباً، رِفْقَةَ أُناسٍ أوفياءٍ لعاداتهم وتقاليدهم المنبثقة من تراثهم الإماراتي الأصيل.
وتذكر الظاهري أن مجتمع الإمارات عرف القهوة منذ مئات السنين، وذلك استناداً لما ذكره نجم الدين الغزي في كتابه: «الكواكب السائرة» أنه في عام 1540م على وجه التقريب عُرفت القهوة في السواحل الشرقية للجزيرة العربية وهو توصيف جغرافي يشمل دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث جلبها الحُجّاج القادمون من مكة المكرّمة إلى المنطقة، بعد أن شاع استخدامها في مكة عام 1450م، وهكذا تابع البنّ انتشاره في أرجاء العالم الإسلامي. وهناك قصيدة للشاعر المتصوّف محمد بن صالح المنتفقي المعروف بشاعر «الصير» -الاسم القديم لرأس الخيمة- والمتوفى سنة 1732م أي قبل ثلاثمائة عام، وتعدّ قصيدته من أولى المدوّنات والمخطوطات التي ذكرت فيها القهوة بالمنطقة، حيث يقول في مقتطفات من القصيدة، ما يلي:
(من قهوةٍ أيّها السّاقي اسقني أبدا
مُزيلة النومِ عمّن ربه عبدا
وتطرد الهمّ والوسواس جالبةً
لنا السرور وعنّا تُذهِب الكَمَدا وتشرحُ الصّدرَ من ضيقٍ تُفَرّجُهُوتُطرْبُ القلبَ بل تُكسيه نور هدى
تنقّي الدّماغ وتصحي القلب كافيةً
للزاهدين عشاءٌ كان ذا وغدا).
حضور في النصوص
ومن تجليات القهوة في الأدب الإماراتي الحديث، نجد العديد من المقاطع الروائية والنثرية والشعرية المتماهية مع الحسّ المديني، ومع تحولات ما بعد الطفرة، حيث أدّى الانفتاح المعرفي المتمثّل في القراءات المعاصرة والترحال إلى العواصم الثقافية في البلاد العربية والأجنبية، إلى ظهور شواخص تعبيرية مجسّدة في نصوص الأدباء وفي الأعمال التصويرية والنحتية للتشكيليين، وكذلك في الفنون الأدائية والأعمال الدرامية للمسرحيين والسينمائيين بالإمارات، والتي كان لمفردات مثل: «القهوة» و«المقهى» حضور ملموس في بنية هذه النصوص وفي معمارها الفني، ونذكر من هذه النصوص قصيدة للشاعر الراحل أحمد راشد ثاني يقول فيها:
«تصعدُ قهوتي مُرّة، كل مَرَّةٍ، كي تنفجر الذكرى في تلافيف اليأس، ويركضُ خيال الوادي في العروق.
مُرَّة تصعد قهوتي كي تُنزل الليل من أوهامه، وتداوي به قروح النهار....».
وفي نصٍّ ملحميٍ طويل للشاعر الإماراتي عبدالعزيز جاسم، نرى في هذا المقطع ما يمكن أن نطلق عليه: «أسْطرة الواقع»، أو الاشتباك العنيف مع خيالات الماضي، ضمن راهنية الحاضر، حيث يقول جاسم:
«أستريح في مقهى، يأتيني بحّار من (بنما) شاربُه قصيرٍ وقبّعتُه كسحابة، يطلب منّي أن أدلّه على محطة قطار، يدفع عني ثمن القهوة، ثم أدلّه على الصحراء، وها أنا ألتقي جاري وهو يُصَرصِر كطاحونة، ويُنير دارَه بقُمعٍ كبيرٍ يُوجّهه نحو القمر فيسيل الضوء من الثقب كالعسل»!
تداخل الخرافة والتاريخ
وسط احتشاد مرهف تتقاطع فيه الميثولوجيا مع الواقع، وتتشابك فيه الخرافة مع الرصد التاريخي، فإن الحقيقة الناصعة حول اكتشاف القهوة، تظل مشوشة دائماً، ولكنها مغرية أيضاً للخيال الإنساني من أجل تتبّع روافد وإرهاصات هذا الكشف الأنثروبولوجي المهم للغاية، وخصوصاً عندما انتبه الباحثون والآثاريون وعلماء الاجتماع إلى أهمية الموقع الجغرافي لأثيوبيا في العالم القديم وتاريخ الإنسان. وفي ذات الوقت فإن مرتفعات الحبشة وأراضيها الخصبة كانت أيضاً مهداً لظهور القهوة استناداً لحكاية أسطورية متداولة في السرديات الأثيوبية حول الراعي «كالدي» المنتمي لشعب «الأورومو» والمكتشف الأول لها، وخصوصاً بعد ملاحظته لتأثير حبوب البن على خرافه في المرعى، وكيف أنها أصبحت أكثر حيوية ونشاطاً بعد تناولها لهذه الحبوب المماثلة لحبوب التوت أو الكرز. وعندما أخذ «كالدي» حبوب البن الطازجة إلى أحد الرهبان قام هذا الأخير بتحميصها ثم غليها في الماء، مدشّناً بذلك أول مشروب قهوة في التاريخ. وتتوالى الحكايات عن انتقال هذه الحبوب السحرية من إثيوبيا إلى اليمن في القرن الرابع عشر الميلادي على يد المتصوّف الشهير أبي الحسن علي بن عمر الشاذلي، الذي أتقن صنع وإعداد القهوة واستثمرها في طقوس التعبّد والكَشْف والزُّهد والتجلِّي، ضمن طريقته الصوفية الشاذلية. وكان مساهماً قوياً في زراعة أشجار القهوة في اليمن، وتحولها لاحقاً إلى مورد اقتصادي مهم للغاية، وخصوصاً بعد ازدهار حركة الملاحة بميناء «المخا» في اليمن وتصدير القهوة اليمنية من خلالها لتصل إلى مدن العالم وخصوصاً المدن والموانئ الأوروبية، حيث أطلق عليها الأوروبيون: «قهوة الموكا» نسبة إلى ميناء «المخا». وساهم المتصوف الشاذلي أيضاً من خلال أسفاره المتعددة في نقل ثقافة القهوة إلى شبه الجزيرة العربية وإلى العواصم الكبرى خارجها مثل القاهرة ودمشق وبغداد، وغيرها من المدن والحواضر، حتى ازدهرت وراجت في زمن الدولة العثمانية، واكتسبت صيتاً عالمياً ماثلاً ومتحقّقاً إلى اليوم.